للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْمِعْرَاجَ كَانَ فِي لَيْلَةٍ غَيْرَ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَمَّا الْمِعْرَاجُ فَعَلَى غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْبُرَاقِ، بَلْ رُقِيَ فِي الْمِعْرَاجِ وَهُوَ السُّلَّمُ، كَمَا وَقَعَ بِهِ مُصَرَّحًا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي وَإِجْمَالٌ لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ رَبَطَ الْبُرَاقَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُ عَلَى الْبُرَاقِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ إِسْرَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي هُوَ السُّلَّمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَكَأَنَّ الرَّاوِي طَوَى الرِّوَايَةَ، فَاخْتَلَّ بِهِ أَمْرُ الدِّرَايَةِ، ثُمَّ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْعُرُوجِ إِلَى السَّمَاءِ إِظْهَارُ الْحَقِّ لِلْمُعَانِدِينَ، لِأَنَّهُ لَوْ عُرِجَ بِهِ عَنْ مَكَّةَ إِلَى السَّمَاءِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إِلَى إِيضَاحِ الْحَقِّ لِلْمُعَانِدِينَ، كَمَا وَقَعَ فِي الْأَخْبَارِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا صَادَفَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الْعِيرِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِيَازَةِ فَضِيلَةِ الرَّحِيلِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ هِجْرَةِ غَالِبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ بَابَ السَّمَاءِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مِصْعَدُ الْمَلَائِكَةِ يُقَابِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأُسْرِيَ إِلَيْهِ لِيَحْصُلَ الْعُرُوجُ مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ تَعْوِيجٍ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ.

(فَاسْتَفْتَحَ) أَيْ: طَلَبَ جِبْرِيلُ فَتْحَ بَابِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا (قِيلَ: مَنْ هَذَا) ؟ أَيِ: الْمُسْتَفْتِحُ (قَالَ: جِبْرِيلُ) : بِتَقْدِيرِ هُوَ أَوْ أَنَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِيهِ أَنَّ لِلسَّمَاءِ أَبْوَابًا حَقِيقَةً وَحَفَظَةً مُوَكَّلِينَ بِهَا، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الِاسْتِئْذَانِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أَنَا زَيْدٌ مَثَلًا يَعْنِي: لَا يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ أَنَا، كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ إِذْ قَدْ وَرَدَ بِهِ النَّهْيُ (قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ) ؟ أَيْ: أَنْتَ نَعْرِفُكَ وَمَنْ مَعَكَ حَتَّى تَسْتَفْتِحَ (قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ) الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَحَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَطُلِبَ وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالْعُرُوجِ أَوْ بِالْوَحْيِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ أَيْ بُعِثَ إِلَيْهِ لِلْإِسْرَاءِ وَصُعُودِ السَّمَاءِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ أَصْلِ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى الْمَلَائِكَةِ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالْعُرُوجِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَبُعِثَ نَبِيًّا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ أَمْرَ نُبُوَّتِهِ كَانَ مَشْهُورًا فِي الْمَلَكُوتِ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى خَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَحَرَسِهَا، وَأَوْفَقُ لِلِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِئْذَانِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ مَعَهُ وَتَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَظَائِرِهَا أَسْرَارٌ يَتَفَطَّنُ لَهَا مَنْ فُتِحَتْ بَصِيرَتُهُ وَاشْتَعَلَتْ قَرِيحَتُهُ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ مَأْخَذَهَا وُقُوفُهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَبْوَابِ عَلَى دَأْبِ آدَابِ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ، ثُمَّ السُّؤَالُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَكَذَا الْجَوَابُ. بِمَرْحَبًا مَرْحَبًا بِذَلِكَ الْجَنَابِ، الْمُشْعِرِ بِالتَّنَزُّلِ الرَّحْمَانِيِّ، وَالِاسْتِقْبَالِ الصَّمَدَانِيِّ، وَالْإِقْبَالِ الْفَرْدَانِيِّ، الْمُشِيرِ إِلَى مَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الْمُعَبِّرِ عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ ( «مَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا» ) الْمُومِئُ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: ٤] الْمُصَرِّحِ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ فِي مَقَامِ مُرِيدِ الْمَزِيدِ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، ثُمَّ الْوَارِدُ عَلَى لِسَانِهِ بِلِسَانِ الْجَمْعِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، ثُمَّ عَرَضَ عُلُوَّ مَقَامِهِ، وَحُصُولَ مَرَامِهِ عَلَى آبَائِهِ الْكِرَامِ، وَإِخْوَانِهِ الْعِظَامِ فِي تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الْفِخَامِ، فَيَا لَهَا مِنْ سَاعَةِ سَعَادَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ فَوْقَهَا زِيَادَةٌ! وَقِيلَ: كَانَ سُؤَالُهُمْ لِلِاسْتِعْجَابِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ لِلِاسْتِبْشَارِ بِعُرُوجِهِ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ مِنَ الْبَيِّنِ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يَتَرَقَّى إِلَى أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ، وَيَأْمُرَ مَلَائِكَتَهُ بِإِصْعَادِهِ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَصْعَدْ بِمَنْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ، وَلَا يُسْتَفْتَحْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ.

(قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (نَعَمْ) أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالتَّقْرِيبِ لَدَيْهِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ (قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ) أَيْ: أَتَى اللَّهُ بِالنَّبِيِّ مَرْحَبًا أَيْ: مَوْضِعًا وَاسِعًا، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَمَرْحَبًا مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى جَاءَ أَهْلًا وَسَهْلًا لِقَوْلِهِ: (فَنِعْمَ الْمَجِيءُ) أَيْ: مَجِيئُهُ (جَاءَ) ، فِعْلٌ مَاضٍ وَقَعَ اسْتِئْنَافَ بَيَانٍ زَمَانًا أَوْ حَالًا وَالْمَجِيءُ فَاعِلُ نِعْمَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ أَيْ: جَاءَ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ مَجِيئُهُ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ نِعْمَ الْمَجِيءُ الَّذِي جَاءَهُ، فَحُذِفَ الْمَوْصُولُ وَاكْتُفِيَ بِالصِّلَةِ أَوْ نِعْمَ الْمَجِيءُ مَجِيءٌ جَاءَ فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَاكْتُفِيَ بِالصِّفَةِ. (فَفُتِحَ) أَيْ: بَابُ السَّمَاءِ (فَلَمَّا خَلَصْتُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: وَصَلْتُ إِلَيْهَا وَدَخَلْتُ فِيهَا (فَإِذَا فِيهَا آدَمٌ،

<<  <  ج: ص:  >  >>