فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) : قَالَ عِيَاضٌ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ أَهْلِ التَّارِيخِ: إِنَّ إِدْرِيسَ كَانَ مِنْ آبَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ إِدْرِيسَ ذَلِكَ تَلَطُّفًا وَتَأَدُّبًا، وَهُوَ أَخٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ أَبًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِخْوَةٌ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. (ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ بَابُ السَّمَاءِ إِلَّا لِمَنْ يَكُونُ مَسْبُوقًا بِنَعْتِ الْعَلَاءِ وَوَصْفِ الْوَلَاءِ، وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ فَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. ( «فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ» ) ، فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مُنِحَ لَهُ بِفَتْحِ بَابٍ مَا مُنِعَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ حِجَابٌ، بَلْ يُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ:
عَلَى بَابِكَ الْأَعْلَى مَدَدْتُ يَدَ الرَّجَا وَمَنْ جَاءَ هَذَا الْبَابَ لَا يَخْتَشِي الرَّدَى ( «فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ، مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ» ) أَيْ: مُوسَى أَوْ مَقَامِي (بَكَى) ، أَيْ: مُوسَى تَأَسُّفًا عَلَى أُمَّتِهِ وَشَفَقَةً عَلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ، فَإِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ حَقَّ الْمُتَابَعَةِ مَعَ طُولِ مُدَّتِهِ وَامْتِدَادِ أَيَّامِ دَعْوَتِهِ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ انْتِفَاعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قِلَّةِ عُمُرِهِ وَقِصَرِ زَمَانِهِ، وَهَذَا يُظْهِرُ وَجْهَ قَوْلِهِ: ( «قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أَمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي» ) ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ اسْتِقْصَارَ شَأْنِهِ، فَإِنَّ الْغُلَامَ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْقَوِيُّ الطَّرِيُّ الشَّابُّ، وَهَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ التُّورِبِشْتِيِّ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْغِبْطَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَهْلِ الْفِطْنَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّمَنِّي؛ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي أَمْرِ الْمَحَلِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَكُنْ بُكَاءُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسَدًا مَعَاذَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْحَسَدَ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ مَنْزُوعٌ مِنْ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ مِمَّنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، بَلْ كَانَ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الدَّرَجَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَنْقِيصِ أُجُورِهِمُ الْمَلْزُومِ لِنَقْصِ أَجْرِهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِثْلَ أَجْرِ كُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: غُلَامٌ فَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْقِيصِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظِيمِ كَرَمِهِ، إِذْ أَعْطَى لِمَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ السِّنِّ مَا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا قَبْلَهُ مِمَّنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشَارَ إِلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِ اسْتِمْرَارِ الْقُوَّةِ فِي الْكُهُولَةِ إِلَى أَنْ دَخَلَ فِي أَوَّلِ الشَّيْخُوخَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى بَدَنِهِ هِرَمٌ، وَلَا اعْتَرَى قُوَّتَهُ نَقْصٌ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ غُلَامًا أَنَّهُ حِينَ مُرُورِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَانَ فِي مُدَّةِ عُمُرِهِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَعْمَارِهِمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ مُرُورُ الْأَزْمِنَةِ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الْبَرْزَخِ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ غُلَامًا لِمَا حَصَلَ لَهُ الْمَرْتَبَةُ الْعَلِيَّةُ فِي قَلِيلٍ مِنْ مُدَّةِ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِنَّ الْمِعْرَاجَ عَلَى مَا سَبَقَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِزَمَانٍ قَلِيلٍ إِذْ أَقْصَى مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ عُمُرُ الْغُلَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَبْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْعُمُرِ التَّمَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute