(ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) : فِي إِطْبَاقِ كَلِمَتِهِمْ وَاتِّفَاقِ جُمْلَتِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَدْحِ الْمُطْلَقِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَلْسِنَةَ الْخَلْقِ أَقْلَامُ الْحَقِّ، وَلَيْسَ هُنَا فِي الْأُصُولِ لَفْظُ: فَفُتِحَ، فَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ لَفْظِ الرَّاوِي، أَوِ اكْتِفَاءٌ بِمَا سَبَقَ، وَدَلَالَةٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ) أَيْ: جَدُّكَ الْأَقْرَبُ (إِبْرَاهِيمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ) ، وَكَانَ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ التَّامِّ، وَمُشَاهَدَةِ الْمَرَامِ غَافِلًا عَنِ الْأَنَامِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: ١٧] حَتَّى احْتَاجَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَقَامِ إِلَى تَعْلِيمِ جِبْرِيلَ بِالسَّلَامِ. (ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) .
قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ: اسْتَشْكَلَ رُؤْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مَعَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ مُسْتَقِرَّةٌ فِي قُبُورِهِمْ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَشَكَّلَتْ بِصُوَرِ أَجْسَادِهِمْ، أَوْ أُحْضِرَتْ أَجْسَادُهُمْ لِمُلَاقَاتِهِ أَيْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ تَشْرِيفًا لَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ اخْتِصَاصِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّمَاءِ الَّتِي لَقِيَهُ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الدَّرَجَاتِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: اخْتِصَاصُ آدَمَ بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَوَّلُ الْآبَاءِ، فَكَانَ فِي الْأَوْلَى أَوْلَى، وَعِيسَى بِالثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءِ عَهْدًا مِنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَلِيهِ يُوسُفُ لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ يُدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَتِهِ، وَإِدْرِيسُ فِي الرَّابِعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: ٥٧] وَالرَّابِعَةُ مِنَ السَّبْعِ وَسَطٌ مُعْتَدِلٌ، وَهَارُونُ فِي الْخَامِسَةِ لِقُرْبِهِ مِنْ أَخِيهِ، وَمُوسَى أَرْفَعُ مِنْهُ لِفَضْلِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِبْرَاهِيمُ فَوْقَهُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ نَبِيِّنَا. أَقُولُ: بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ مِنَ الْمَقَامِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُلِّ سَمَاءٍ إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الْأَعْلَامِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِمْ عَنْ بَقِيَّةِ الْكِرَامِ.
(ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) : وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ، وَبَعْضِ النُّسَخِ: رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ الْآتِي: ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْأَكْثَرُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ التَّاءِ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَعْدَهُ حَرْفُ الْجَرِّ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: رُفِعَتْ لِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ التَّاءِ أَيْ: رُفِعَتِ السِّدْرَةُ لِي بِاللَّامِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِي، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ رَفَعُهُ إِلَيْهَا أَيِ: ارْتَقَى بِهِ وَأُظْهِرَتْ لَهُ، وَالرَّفْعُ إِلَى الشَّيْءِ يُطْلَقُ عَلَى التَّقَرُّبِ مِنْهُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرَّفْعُ تَقْرِيبُكَ الشَّيْءَ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: ٣٤] أَيْ: مُقَرَّبَةٍ لَهُمْ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى اسْتُبِينَتْ لَهُ بِنَعْرَتِهَا كُلَّ الِاسْتِبَانَةِ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَيْهَا كُلَّ الِاطِّلَاعِ بِمَثَابَةِ الشَّيْءِ الْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ، وَفِي مَعْنَاهُ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَرُفِعَ لِي بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: سُمِّيَتْ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى لِأَنَّ عِلْمَ الْمَلَائِكَةِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَلَمْ يُجَاوِزْهَا أَحَدٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا وَمَا يَصْعَدُ مِنْ تَحْتِهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَإِضَافَتُهَا إِلَى الْمُنْتَهَى لِأَنَّهَا مَكَانٌ يَنْتَهِي دُونَهُ أَعْمَالُ الْعِبَادِ وَعُلُومُ الْخَلَائِقِ، وَلَا تَجَاوُزَ لِلْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ مِنْهَا إِلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَأَصْلُ سَاقِهَا فِي السَّادِسَةِ.
(فَإِذَا نَبِقُهَا) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُسْكَنُ أَيْ ثَمَرُهَا مِنْ كِبَرِهِ الدَّالِّ عَلَى كِبَرِهَا (مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قُلَّةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ إِنَاءٌ لِلْعَرَبِ كَالْجَرَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَهَجَرُ اسْمُ بَلَدٍ يَنْصَرِفُ وَلَا يَنْصَرِفُ، وَلَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي قِشْرِهَا كَالْمَطْعُومِ فِي ظَرْفِهِ ضُرِبَ مَثَلُ ثَمَرَتِهَا بِأَكْبَرِ مَا كَانُوا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنَ الظُّرُوفِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: هَجَرٌ مُحَرَّكَةً بَلَدُ بِالْيَمَنِ مُذَكَّرٌ مَصْرُوفٌ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَيُمْنَعُ، وَقَرْيَةٌ كَانَتْ قُرْبَ الْمَدِينَةِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا الْقِلَالُ وَيُنْسَبُ إِلَى هَجَرَ الْيَمَنِ. (وَإِذَا وَرَقُهَا) أَيْ: أَوْرَاقُهَا فِي الْكِبَرِ (مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ) ، بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَاللَّامِ جَمْعُ الْفِيلِ، مِثْلُ الدِّيَكَةِ جَمْعُ الدِّيكِ، وَالْآذَانُ بِالْمَدِّ جَمْعُ الْأُذُنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute