(قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (هَذَا) أَيْ: هَذَا الْمَقَامُ أَوْ هَذَا الشَّجَرُ (سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ) أَيْ: ظَاهِرَةٌ. وَقَالَ شَارِحٌ: إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ: فَإِذَا أَنَا بِأَرْبَعَةِ أَنْهَارٍ (نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ قُلْتُ: مَا هَذَانِ) أَيِ: النَّوْعَانِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: ١٩] (يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْكَوْثَرُ وَلِلْآخَرِ نَهْرُ الرَّحْمَةِ، كَمَا فِي خَبَرٍ، وَإِنَّمَا قَالَ بَاطِنَانِ لِخَفَاءِ أَمْرِهِمَا فَلَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَى وَصْفِهِمَا، أَوْ لِأَنَّهُمَا مَخْفِيَّانِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، فَلَا يُرَيَانِ حَتَّى يَصُبَّا فِي الْجَنَّةِ، (وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ) ، قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فِي الْأَرْضِ لِخُرُوجِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ مِنْ أَصْلِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا مَا عُرِفَا بَيْنَ النَّاسِ، وَيَكُونُ مَاؤُهُمَا مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ السِّدْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ كَيْفِيَّتُهُ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الِاسْمِ بِأَنْ شَبَّهَهُمَا بِنَهْرَيِ الْجَنَّةِ فِي الْهَضْمِ وَالْعُذُوبَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ تَوَافُقِ الْأَسْمَاءِ بِأَنْ يَكُونَ نَهْرَيِ الْجَنَّةِ مُوَافِقَيْنِ لِاسْمَيْ نَهْرَيِ الدُّنْيَا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَاطِنَانِ هُوَ السَّلْسَبِيلُ وَالْكَوْثَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النِّيلَ وَالْفُرَاتَ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِهَا، ثُمَّ يَسِيرَانِ حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يَخْرُجَانِ مِنَ الْأَرْضِ وَيَسِيرَانِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُهُ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
(ثُمَّ رُفِعَ لِي) أَيْ: قُرِّبَ وَأُظْهِرَ لِأَجْلِي (الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ) ، وَهُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ حِيَالَ الْكَعْبَةِ وَحُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ (ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّبَنَ لَمَّا كَانَ ذَا خُلُوصٍ وَبَيَاضٍ، وَأَوَّلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَرْبِيَةُ الْمَوْلُودِ صُوَرٌ بِهِ فِي الْعَالَمِ الْمُقَدَّسِ مِثْلَ الْهِدَايَةِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهِ الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ. أَوَّلُهَا انْقِيَادُ الشَّرْعِ، وَآخِرُهَا الْوُصُولُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. (فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ) : أَنَّثَ مَرْجِعَ اللَّبَنِ مَعَ أَنَّهُ مُذَكَّرٌ مُرَاعَاةً لِلْخَبَرِ (أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ) ، أَيْ: عَلَيْهَا أَوْ كَذَلِكَ (ثُمَّ) : يَعْنِي بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى مَقَامِ: (دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ) : وَفِي الْحَدِيثِ الْآتِي: عَلَى أُمَّتِي وَلَا مُنَافَاةَ. (خَمْسِينَ صَلَاةً) : بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَقَوْلُهُ: (كُلَّ يَوْمٍ) ، أَيْ: وَلَيْلَةٍ ظَرْفٌ (فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى) ، أَيْ: بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ، (فَقَالَ) أَيْ: مُوسَى (بِمَا أُمِرْتَ) : مِنَ الْعِبَادَةِ (قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً) أَيْ: أَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ كَانَتْ كُلُّ صَلَاةٍ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ عَلَيَّ صَلَاةٌ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ (كُلَّ يَوْمٍ) . يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهُ بِالنَّهَارِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ لِلظُّهُورِ وَالِاسْتِغْنَاءِ.
(قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ) : قَيَّدَ بِالْأُمَّةِ لِأَنَّ قُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ وَعِصْمَتَهُمْ تَمْنَعُهُمْ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، وَتُعِينُهُمْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الطَّاعَةِ، وَلَوْ عَلَى أَقْصَى غَايَةِ الْمَشَقَّةِ وَالطَّاقَةِ، وَالْمَعْنَى لَا تَقْدِرُ أُمَّتُكَ عَادَةً أَوْ سُهُولَةً لِضَعْفِهِمْ أَوْ كَسَلِهِمْ. (خَمْسِينَ صَلَاةً) أَيْ: أَدَاءَهَا (كُلَّ يَوْمٍ) ، ثُمَّ بَيَّنَ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ) أَيْ: زَاوَلْتُ وَمَارَسْتُ الْأَقْوِيَاءَ مِنَ النَّاسِ (قَبْلَكَ) ، يَعْنِي: وَلَقِيتُ الشِّدَّةَ فِيمَا أَدَّتْ مِنْهُمْ، (وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ: بِالْخُصُوصِ (أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ) أَيْ: وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ أُمَّتُكَ؟ (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute