للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَهَذَا الْكَلَامُ كَانَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوفِّيَ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، وَلَا خَفَاءَ بِأَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْمُسْتَخْلَفُ بَعْدَهُ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ، فَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَنَازِلِ اللَّاصِقَةِ بِالْمَسْجِدِ قَدْ جَعَلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ مُخْتَرَقًا يَمُرُّونَ فِيهِ إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ كُوَّةً يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مِنْهُ، فَأَمَرَ بِسَدِّ جُمْلَتِهَا سِوَى خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ تَكْرِيمًا لَهُ بِذَلِكَ أَوَّلًا، ثُمَّ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ عَلَى أَمْرِ الْخِلَافَةِ حَيْثُ جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ دُونَ النَّاسِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَسَدُّ أَبْوَابِ الْمَقَالَةِ دُونَ التَّفَوُّقِ إِلَيْهَا وَالتَّطَوُّعِ عَلَيْهَا، وَأَرَى الْمَجَازَ فِيهِ أَقْوَى، إِذْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ لَهُ مَنْزِلٌ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْزِلُهُ بِالسُّنْحِ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَنَّهُ مَهَّدَ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ، وَقَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ( «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» ) لِيُعْلَمَ أَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِالنِّيَابَةِ عَنْهُ، وَكَفَانَا حُجَّةً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَقْدِيمُهُ إِيَّاهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِبَاؤُهُ كُلَّ الْإِبَاءِ أَنْ يَقِفَ غَيْرُهُ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ اه.

وَقِيلَ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ خَوْخَةَ بِنْتِهِ عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِسَدِّ خَوْخَاتِ الْأَزْوَاجِ إِلَّا خَوْخَةَ عَائِشَةَ، وَوَجْهُ الْإِضَافَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ظَاهِرٌ لِإِمَامَتِهِ فِيهِ بِإِذْنِهِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لَفْظُ الْمَسْجِدِ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَفِي الرِّيَاضِ: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِسَدِّ أَبْوَابِ الشَّوَارِعِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ ( «فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ رَجُلًا كَانَ أَفْضَلَ فِي الصُّحْبَةِ يَدًا مِنْهُ» ) . وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ: أَنَّ أَبْوَابًا كَانَتْ مُفَتَّحَةً فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِهَا فَسُدَّتْ، غَيْرَ بَابِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: سَدَّ أَبْوَابَنَا غَيْرَ بَابِ خَلِيلِهِ، وَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَامَ فِيهِمْ فَقَالَ: (أَتَقُولُونَ سَدَّ أَبْوَابَنَا وَتَرَكَ بَابَ خَلِيلِهِ، فَلَوْ كَانَ مِنْكُمْ خَلِيلٌ كَانَ هُوَ خَلِيلِي، وَلَكِنِّي خَلِيلُ اللَّهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي فَقَدْ وَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَقَالَ لِي: صَدَقَ وَقُلْتُمْ كَذَبَ) .

(وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: مُسْتَقِلَّةٍ (لَوْ كُنْتُ) : وَفِي رِوَايَةٍ بَدَلًا مِمَّا قَبِلَهُ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ كُنْتُ (مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي) ، أَيْ بِإِفَادَةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ (لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) . أَيْ: لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِي أَنْ آخُذَ غَيْرَ اللَّهِ خَلِيلًا لِأَكُونَ لَهُ خَلِيلًا، سَوَاءً يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «أَبُو بَكْرٍ صَاحِبِي وَمُؤْنِسِي فِي الْغَارِ، سِدُّوا خَوْخَةً فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ» ) . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ، فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ( «إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُهُ، وَلَكِنْ خَلَّةُ الْإِسْلَامِ، سِدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ» ) . قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَفِي قَوْلِهِ: سِدُّوا إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى حَسْمِ أَطْمَاعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنَ الْخِلَافَةِ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>