للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اسْتَأْذَنَ فِي قَتْلِهِ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ مُنَافِقًا لِكَوْنِهِ أَبْطَنَ خِلَافَ مَا أَظْهَرَ، وَعُذْرُ حَاطِبٍ مَا ذَكَرَهُ فَإِنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهُ ") ، أَيْ: حَاطِبًا (قَدْ شَهِدَ بَدْرًا) أَيْ: حَضَرَهُ (" وَمَا يُدْرِيكَ ") ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُكَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ (" لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ ") : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَقْبَلَ (" عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ") : وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ (" فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ") ، أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَفْعَالِ النَّافِلَةِ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً (" قَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ ") . أَيْ: ثَبَتَتْ أَوْ وَجَبَتْ بِمُوجِبِ إِيجَابِي مِنَ الْوَعْدِ الْوَاجِبِ وُقُوعَهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى التَّرَجِّي فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ وُقُوعَ هَذَا الْأَمْرِ مُحَقَّقٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُوثِرَ عَلَى التَّحْقِيقِ بَعْثًا لَهُ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَلَا يَقْطَعُ الْأَمْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ ذِكْرَ لَعَلَّ لِئَلَّا يَتَّكِلَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا عَلَى ذَلِكَ وَيَنْقَطِعَ عَنِ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِظْهَارُ الْعِنَايَةِ لَا التَّرَخُّصِ لَهُمْ فِي كُلِّ فِعْلٍ، بَلِ الْحَدِيثُ الْآتِي عَنْ حَفْصَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ لَا فِي حَالِ الْقَطْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: " فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ") : وَهِيَ أَرْجَى مِمَّا قَبْلَهَا كَمَا لَا يَخْفَى، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَوْ تَوَجَّهَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ أَوْ غَيْرُهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِسْطَحٍ حَدَّ الْفِرْيَةِ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَوَازُ هَتْكِ أَسْتَارِ الْجَوَاسِيسِ وَقِرَاءَةِ كُتُبِهِمْ، وَفِيهِ هَتْكُ سِتْرِ الْمُفْسِدِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، أَوْ كَانَ فِي السِّتْرِ مَفْسَدَةٌ، وَمَا فَعَلَهُ حَاطِبٌ كَانَ كَبِيرَةً قَطْعًا ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِيذَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: ٥٧] وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ: أَنَّهُ لَوِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً مُتَضَمِّنَةً لِأَذَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ كُفْرًا، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ أَذَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ أَذَى الْكُفَّارِ عَنْ قَرَابَتِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْإِبْلَاغُ، وَقَدْ صَدَّقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ نَعَمْ قَصُرَ فِي اجْتِهَادِهِ حَيْثُ أَخْفَى أَمْرَهُ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} [الممتحنة: ١] ، أَيِ: الَّذِينَ أُعَادِيهِمْ وَعَدُوَّكُمْ، أَيِ: الَّذِينَ يُعَادُونَكُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ أَوْلِيَاءَ أَيْ: أَحِبَّاءَ وَمَا بَعْدَهُ: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ - إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ - لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: ١ - ٤] الْآيَةَ. وَإِنَّمَا عَمَّ الْخِطَابُ لَيَدْخُلَ فِيهِ أَمْثَالُ حَاطِبٍ، وَلِذَا قِيلَ فِيهِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>