إن هذا التحدّي الخاص بعد ذاك التحدّي العام كان من شأنه أن يثير هؤلاء الزعماء، فلا يرون لذة للعيش، ولا تذوق أجفانهم طعم النوم حتى يستفرغوا جهودهم، وجهود من يلوذون بهم في الشدائد للرد على القرآن ولم يبق للمشركين أرض يقفون عليها ولا حجة يستندون إليها، فقالوا إن هذه العلوم والأمور الغيبية والهدايات الواردة في القرآن لا عهد لنا بها، وهذا سبب عجزنا عن معارضة القرآن. قالوا ذلك وهم لا يدرون أنّ هذا حجة عليهم لأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما هو إلا رجل منهم عاش بين أظهرهم ولم يزد في العلوم الاكتسابية عليهم بشيء. فأرخى القرآن الكريم لهم العنان وتنازل معهم في المحاورة إلى مجال يتوهمون إحراز قصب السبق فيه، ولم يطالبهم بشيء من حقائق الكون والتاريخ ومن قصص الأنبياء الغابرين وشأن الألوهية وكمالاتها وأمهات الأخلاق ومقومات الحضارات ورقيّ المجتمعات، وإنما عليهم أن يأتوا بمثل عشر سور من سور القرآن وليفتروا موضوعاتها كما يشاءون على أن تكون في فصاحة القرآن وبلاغته أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)[هود: ١٣ - ١٤].
فإن عجزتم مع آلهتكم ومع من تلوذون بهم في الشدائد فعليكم أن تعترفوا بالحقيقة وتستسلموا لمنزّل القرآن الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض، وآمنوا برسوله الذي أرسله إليكم وكفّوا عن الجهالات والضلالات المتوارثة التي ألجأتكم إلى أضعف المواقف وأضيق السبل، فإن ذلك لا يليق بعاقل يحترم نفسه وعقله.
وفي خاتمة المطاف رضي منهم بأقل من ذلك فاكتفى بسورة مثل أيّ سورة من سور القرآن الكريم، ولم يحدّد لهم نوعية السورة بل تركها لرغبتهم، فإن شاءوا من السور الطويلة كان بها، أو من السور القصيرة فلهم ذلك، وسواء جاءوا بها منفردين أو مجتمعين.