للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما دليلهم من العقل قالوا: إن الرؤية أمر وجودي لا يتعلق إلا بموجود، وما من أكمل وجودا كان أحق بالرؤية من غيره والله -تعالى- أكمل وجودا من غيره فهو أحق أن يرى من غيره يوضح ذلك أن تعذر الرؤية إما لخفاء المرئي وإما لضعف وآفة في الرائي والله -تعالى- ليس به خفاء فهو أظهر من كل موجود، وإنما تعذرت رؤيته في الدنيا لضعف القوة الباصرة، فإذا كان يوم القيامة نشئ المؤمنون تنشئة قوية بجوارح وأبصار قوية يتحملون بها رؤية الله في الآخرة، أما في الدنيا فلا يستطيعون أن يروا الله لا يستطيع البشر لضعف بشريتهم أن يروا ربهم في الدنيا، ولهذا لما سأل موسى ربه الرؤيا قال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} فلما تجلى الله للجبل تدكدك الجبل وخر موسى صعقًا، وإذا كان الإنسان في الدنيا الآن لا يستطيع أن يرى الشمس ويحد بها، وهي مخلوقة فكيف يستطيع أن يرى الله؟ بل إن الإنسان لا يستطيع أن يرى الملك على صورته إلا إذا قواه الله، قال الله -تعالى-: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} يعني لمات لا يستطيع الإنسان أن يرى الملك على صورته والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الملك على صورته رعب رعبًا شديدًا وذهب إلى زوجته، وقال: دثروني دثروني وقواه الله، فإذا كان الإنسان البشر لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته ولا يستطيع أن يرى

الشمس ويحدق فيها ويحدق فيها وهي مخلوق فيكف يستطيع أن يرى الله في الدنيا؟ لا يستطيع البشر أن يروا الله لكن في الآخرة ينشئهم الله تنشئة قوية بأجسام قوية وأبصار قوية يتحملون فيها رؤية الله عز وجل.

هذه أدلة أهل السنة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، أما الكلابية والأشاعرة، فهم أثبتوا الرؤية ونفوا الجهة والفوقية وهم أرادوا بذلك أن يجمعوا بين الاعتقادين بين اعتقاد نفي الجسمية عن الله وبين إثبات الرؤية لما ليس بجسم بالحس فأرادوا أن يثبتوا الرؤية؛ لأنهم لم يجرءوا على إنكارها ولم يستطيعوا إنكارها لكن أرادوا أن يبقوا مع المعتزلة في نفس الجهة والفوقية فهم لا يريدون أن يفارقوا المعتزلة، فكانوا مع المعتزلة في نفي الفوقية عن الله والعلو؛ لأن الله ليس بجسم والذي ليس بجسم ولا يكون المكان إلا للأجسام، والله ليس بجسم فلا يكون له مكان، فأرادوا أن يجمعوا بين الاعتقادين بين اعتقاد نفي الجسمية عن الله عز وجل وبين إثبات الرؤية لما ليس بجسم بالحس، فأرادوا أن يكونوا مع أهل السنة في إثبات الرؤية وأن يكونوا مع المعتزلة في نفي الجهة والفوقية فعجزوا عن ذلك فلجأوا إلى حجج السفسطائية وهي الحجج المموهة التي توهم أنها حجة وليست بحجة؛ لأن الحجج أقسام هناك حجج يقينية تفيد اليقين، هناك حجة تفيد اليقين، وهناك حجة دون اليقين، وهناك حجة موهمة مرائية وهي التي توهم أنها حجة وليست بحجة، وهذه كحجة الأشاعرة كما أن الناس أقسام، فمن الناس من هو فاضل تام الفضيلة ومن الناس من هو دون ذلك في الفضل، ومن الناس من هو مرائي يوهم أنه فاضل وليس بفاضل، فلما عجزوا عن ذلك قالوا: نثبت الرؤية وننفي الجهة والفوقية فقالوا: إن الله يُرى لا في جهة أين يُرى من فوق قالوا: لا من تحت قالوا: لا من أمام قالوا: لا خلف قالوا: لا عن يمين، قالوا: لا عن شمال قالوا: لا أين يُرى؟ قالوا لا في جهة هذا مذهب

الأشاعرة أثبتوا الرؤية ونفوا الجهة والفوقية.

مناقشتهم ناقشهم أهل السنة بجوابين:

الجواب الأول: وهو أن يقال: إنكم أيها الكلابية والأشاعرة انفردتم بهذا القول عن طوائف بني آدم وخرجتم به عن ضرورات العقل، فإنه في بدائه العقول أن كل مرئي لا بد أن يكن مواجهًا للرائي مباينًا له لا يمكن أن يكون هناك مرئي قائم بنفسه إلا بجهة للرائي لا بد أن يكون مباينًا للرائي مواجهًا له أما أن يوجد مرئي ليس في جهة هذا لا يعقل؛ ولهذا ضحك جمهور العقلاء من الكلابية والأشعرية حينما أثبتوا الرؤية ونفوا الجهة قالوا: هذا لا يمكن ولا يتصور خرجتم بذلك عن ضرورات العقول خرجتم بذلك عما هو معروف في بدائه العقول لا بد للرؤية من جهة لا بد أن يكون المرئي مواجهًا للرائي مباينًا له، إما أن يكون هناك مرئي ليس له جهة، فهذا لا يعقل ولا يتصور؛ ولهذا أنكر على الكلابية والأشاعرة جميع طوائف بني آدم وضحكوا من إثباتهم الرؤية إنكارهم الجهة والفوقية قالوا: هذا لا يمكن ولا يتصور ولا يعقل، فإنه يلزم من الرؤية أن يكون المرئي بجهة من الرائي؛ ولهذا تسلط عليهم المعتزلة وقالوا: أنتم الآن وقعتم في الفخ كيف تثبتون الرؤية ولا تثبون الجهة؟ لا بد أن تثبتوا الجهة والفوقية فتكونوا أعداء لنا مع المشبهة أو تنفوا الرؤية فتكونوا معنا، أما أن تبقوا مذبذبين تثبتون الرؤية وتنكرون الجهة والفوقية فهذا غير معقول غير متصور ولا يمكن.

<<  <   >  >>