وأراد المؤلف -رحمه الله- الطحاوي الرد على القدرية والمعتزلة الذين يقولون: إنه يجب على الله فعل الأصلح للعبد، يقولون: يجب على الله فعل الأصلح للعبد، وهي مسألة الهدى والضلال. والقدرية أنكروا أن يهدي الله أحدا أو أن يضل أحدا فقالوا: إن العبد هو الذي يهدي نفسه، وهو الذي يضل نفسه، أما الله فلا يهدي أحدا، ولا يضل أحدا، وأجابوا على النصوص قالوا معنى يهدي: يعنى يبين له الطريق الصواب ويسميه مهتديا، ومعنى يضله، أي يسميه ضالا، أو يحكم عليه بالإضلال بعد خلقه الإضلال من نفسه. فهذه المسألة وهي مسألة الهدى والضلال مسألة عظيمة من مسائل القدر، ولا بد من بيان مراتب الهداية وأقسامها حتى يتبين هذا الباب. مراتب الهداية أربعة: المرتبة الأولى: الهداية العامة لكل مخلوق إلى ما يصلحه هداية الله العامة لكل مخلوق إلى مصالح معاشه، وما يقيمه هذه الهداية العامة عامة لكل مخلوق للآدميين والطيور والوحوش والصغار والكبار والأطفال، هداية الله العامة لكل مخلوق إلى ما يصلحه في معاشه وإلى ما يقيمه، ويدخل في ذلك: هداية الطيور إلى أوكارها، وهداية الأنعام إلى مراتعها، وهداية الطفل إلى ثدي أمه، وهداية الإنسان إلى ما يصلحه في معاشه وما يقيم به أمور حياته، هداه الله كيف يأكل، كيف يشرب، كيف ينكح. الحيوانات هداها الله تعرف كيف تأكل وكيف تشرب وكيف تنكح أنثاها. هي عامة شاملة للآدميين وللحيوانات وللوحوش وللطيور، قال الله- سبحانه وتعالى-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) } هذه دليل الهداية العامة، وقال -سبحانه- في جواب موسى لفرعون: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) } كل المخلوقات هداها الله إلى ما يصلحها في معاشها؛ فالإبل والبقر والغنم هداها الله كيف تأكل وكيف تذهب إلى الماء وتشرب كيف تذهب إلى المراعي. الطفل من حين سقوطه من بطن أمه هداه الله إلى أن يلتقم ثدي أمه هذه هي الهداية العامة، الطيور هداها الله إلى أوكارها جلب غذائها لصغارها {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) } هذه عامة للآدميين ولغيرهم وهذه ما أنكرها أحد. النوع الثاني من الهداية: هداية البيان والدلالة والإرشاد والتعليم والدعوة والإبلاغ، التعليم والدعوة إلى ما يصلح الإنسان في معاده، وهذه خاصة بالآدميين خاصة بالمكلفين من الجن والأنس، هداية تسمى هداية البيان والدلالة والإرشاد والتعليم والدعوة إلى ما يصلح الإنسان في معاده يوم القيامة إلى ما يكون سببا في نجاته من النار وإيداعه بما أوجب الله عليه، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه لا يعذب الله أحدا حتى تقوم عليه الحجة، وحتى يُهدى هذه الهداية وهي التي أرسل من أجلها الرسل وأنزل من أجلها الكتب قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} يعني ما كان الله ليضلهم بعد أن هداهم وبين لهم طريق الخير فلما بين لهم طريق الخير وتركوه أضلهم عقوبة لهم، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} هذه هي هداية الدلالة والإرشاد. وقال -سبحانه-: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} هديناهم يعني دللناهم طريق الخير وطريق الشر، {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فلما بين الله لهم طريق الخير وطريق الشر واستحبوا العمى على الهدى جاءتهم العقوبة {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) } .