يقولون: إن أفعال العباد، أفعالك، أيها العبد خلقها الله، ولكن أنت الذي باشرتها وكسبتها، فهي تنسب إليك؛ لأنك أنت المباشر، وأنت الكاسب، وأنت الذي فعلتها باختيارك، فتصير بها مطيعا، وتصير بها عاصيا تنسب إليك، وإن كان الله خلقها، فهي من الله خلقا وإيجادا وتقديرا، ومن العبد تسببا وفعلا وكسبا ومباشرة، هذا معتقد أهل السنة والجماعة. وهناك مذهبان آخران: المذهب الأول: مذهب الجبرية، قالوا: إن الأفعال هي أفعال الله والعباد مجبورون على أفعالهم، فالعباد ليس لهم من الأمر شيء، بل هم مجبورون على الأفعال، والأفعال أفعال الله، فالله هو المصلي وهو الصائم، ولكن العباد وعاء للأفعال، فهم كالكوز الذي يصب فيه الماء، فالعباد كوب، والله كصباب الماء فيه، العباد ما لهم اختيار، وليس لهم أفعال، ولا تنسب الأفعال إليهم، بل الأفعال أفعال الله؛ لأن الله أجبرهم على ذلك، وتجري الأفعال على أيديهم اضطرارا لا اختيار لهم في ذلك. واضح هذا؟ . يقولون: فجميع أفعال العباد اضطرارية، يفعلها العبد بدون إرادة اضطرارا، كحركات المرتعش والنائم ونبض العروق، وحركات الأشجار، والعبد لا قدرة له، ولا عمل له أصلا، وكون الأفعال تضاف إلى العباد هذا من باب المجاز، وإلا فالله -تعالى- في الحقيقة هو الفاعل، فهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله، كما يقال: طلعت الشمس، طلع النهار، والشمس ليس لها اختيار، وليس لها شيء، إنما يضاف إليها الشيء مجازا، وهذا مذهب الجهمية ورئيسهم الجهم بن صفوان يقولون: ما في شيء اختيار للعبد، ما في فرق بين الأفعال التي يفعلها الإنسان كحركات المرتعش، والأفعال التي يفعلها اختيارا، ما في شيء اختيار، كل الأفعال اضطرار. المذهب الثالث: مذهب المعتزلة والقدرية، قالوا: بالعكس، مذهبهم عكس مذهب الجهمية، قالوا: أفعال العباد اختيارية، بل زادوا على ذلك، وقالوا: هم الذين خلقوا أفعالهم، والله لا يقدر على أفعالهم، لا يقدر الله على خلق أفعال العباد، فالعباد هم الذين خلقوا الطاعات والمعاصي، وخلقوا الخير والشر، وباشروها وخلقوها وأوجدوا أفعالهم؛ ولذلك يجب على الله أن يثيب المطيع؛ لأنه هو الذي خلق فعله، وهو حينما يفعل الحسنات كالأجير، والأجير يجب إعطاؤه أجرة، فيجب على الله أن يثيب المؤمنين، هكذا يقولون، أوجبوا على الله. والعاصي هو الذي خلق الشر والمعصية بنفسه، وتوعده الله بالنار، فيجب على الله أن ينفذ وعيده، وأن يخلده في النار، هكذا مذهب كل من المعتزلة والقدرية، عكس مذهب الجبرية. وهدى الله أهل السنة والجماعة، فقالوا: إن الأفعال التي تصدر من العباد تنقسم إلى قسمين: أفعال اضطرارية، فهذه تكون صفة للعباد، وليست تكون صفة لهم، وليست أفعالا لهم كحركات المرتعش والنائم ونبض العروق والأشجار، هذه اضطرارية الإنسان ما له، ليس له اختيار. فيه النوع الثاني من أفعال العباد الاختياري، وهو الذي يفعله الإنسان باختياره، له فعله، وله تقريره كالقيام والقعود، أنت الآن تحس من نفسك، تستطيع أن تقوم، وتستطيع أن تقعد، وتستطيع أن تحضر الدورة، وتستطيع أن لا تحضر، تأكل وتشرب، وتتكلم، وتذهب وتجيء، وتسافر، أليست هذه الأفعال باختيارك؟ هذه أفعال اختيارية، هل هي مثل حركات المرتعش والنائم؟ ليست مثلها إذن. الأفعال قسمان: قسم اضطراري، ما للعبد فيه صنع ولا اختيار، مثل حركات المرتعش، هل يستطيع يمسك نفسه، ما يستطيع نبض العروق هل يستطيع يمسك العروق حتى لا ينبض؟ ما يستطيع، حركات النائم كذلك، أما الأفعال التي يفعلها الإنسان اختيارية، يقوم، ويقعد، ويذهب، ويتكلم، ويأكل، ويشرب، ويسافر، ويخاصم هذه أفعال اختيارية، قد فطر الله الناس على هذا، فمحل النزاع معهم: الأفعال الاختيارية، أما الأفعال الاضطرارية هذه ليست محلا للنزاع، كل الطوائف الثلاث اتفقوا على أنها ليست -أيش أنها تكون صفة لهم- وليست أفعالا لهم، أما الأفعال الاختيارية: هذه محل الخلاف. فالجبرية قالوا: حتى الأفعال الاختيارية اضطرارية، ما للعبد اختيار، والمعتزلة والقدرية قالوا: العباد خلقوها، وأوجدوها مختارين، والله أعلم، لم يقدرها ولا يستطيع خلقها، نعم -تعالى الله- وأهل السنة توسطوا، فقالوا: الأفعال الاختيارية هي خلق الله، وهي فعل العباد، فهي تضاف إلى الله من جهة الخلق، وتضاف إلى العباد من جهة الكسب والتسبب والمباشرة، فهي من الله خلقا وإيجادا وتقديرا، ومن العبد فعلا وتسببا وكسبا ومباشرة، واضح هذا؟ الجبرية بماذا استدلوا؟ الجبرية ماذا يقولون؟