يقولون: إن أفعال العباد كلها اضطرارية، استدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وهذا في غزوة بدر، لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب، ثم رمى بها نحو الكفار، لم يبق كافر إلا، وقد أصابه من هذه القبضة شيء، ودخل في عينيه وفمه ومنخره، فأنزل الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قالوا: إن الله نفى عن نبيه الرمي، فدل على أن العبد لا اختيار له، الله قال: ما رميت، ولكن الله رمى.
إذن: نفى الرمي عن نبيه، وأثبته لنفسه، فدل على أن العبد لا فعل له، ولا اختيار، وأن الأفعال أفعال الله. واضح هذا؟.
أجاب أهل السنة والجماعة، أهل الحق قالوا:
أنتم -أيها الجبرية- أغمضتم أعينكم عن الحق، وفتحتم أعينكم لما يناسبكم من الآية، الآية الآن فيها إثبات الرمي للرسول، ونفي الرمي قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} إذن نفى عن نبيه رميا، وأثبت لنبيه رميا، فدل.. الرمي نوعان: نوع يكون للمخلوق، ونوع يكون للخالق، نوع أثبته الله لنبيه، ونوع نفاه الله عن نبيه، فالنوع الذي أثبته الله لنبيه الحذف، الرسول حذف، والنوع الذي نفاه عن نبيه الإصابة، فابتداء الرمي هذا حذف، وانتهاؤه الإصابة هذا رمي، فالله أثبت لنبيه الحذف، ونفى عن نبيه الإصابة، وتقدير الآية، وما أصبت إذ حذفت، ولكن الله أصاب {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وما أصبت إذ حذفت، ولكن الله أصاب.
قالوا -أيضا- الجبرية: ومما يدل على أن أفعال العباد، لا اعتبار لها، وأن الله تعالى، لا يعتد بأفعال العباد، قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ووجه الدلالة: قالوا الباء في قوله: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) باء السبب والتقدير: لن يدخل أحدكم الجنة بسبب عمله، فالله تعالى ما اعتبر العمل شيئا، ولم يعتبره سببا، وإنما دخول الجنة بفضل الله، فدل على أن العباد ليس لهم أفعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى دخول الجنة بالعمل، وإنما دخول الجنة بالفضل والرحمة، ما دل على أن الأفعال ليست أفعالا لهم، واضح هذا؟ .
أما القدرية والمعتزلة، الذين يقولون: العباد خالقون لأفعالهم، والله تعالى لا يقدر عليها، استدلوا بقول الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) } قالوا: الآية دليل على أن هناك خالقين مع الله، إلا أن الله أحسنهم وأجودهم خلقا، فقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) } يعني أجود الخالقين وأحسنهم، فدل على أن العباد خالقين مع الله، أن العباد خالقون مع الله إلا أن الله أحسن خلقا وأجود، فدل على أن العباد خالقون لأفعالهم.
وقالوا: مما يدل على أن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم قول الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) } قالوا: الباء باء العوض، والمعنى ادخلوا الجنة عوضا عن عملكم، فدل على أن الأعمال عوض؛ لأن العباد خلقوها وأوجدوها باختيارهم، فوجب على الله أن يعوضهم عنها الثواب، كما يعوض الأجير أجرته.
ماذا أجاب أهل السنة؟ قالوا: أنتم -أيها المعتزلة والقدرية- ضللتم في تفسير هاتين الآيتين، كما أن إخوانكم من القدرية ضلوا أيضا، أما قول الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) } فالخلق نوعان:
النوع الأول: الإنشاء والاختراع، هذا لا يقدر عليه إلا الله، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
النوع الثاني: من الخلق التصوير والتقدير، وهذا هو الذي يثبت للمخلوق، ومعنى الآية: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) } يعني أحسن المقدرين المصورين، لا المنشئين المخترعين.
الإنشاء والاختراع ما يكون إلا لله، لكن التقدير والتصوير، يقدر عليه المخلوق، وكما قال الله -تعالى- عن عيسى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} تخلق: يعني تقدر وتصور، فعيسى -عليه السلام- يصور ويقدر الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه، فالله - تعالى- يخلق فيه الروح، فيصير؛ ولهذا قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت *** وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
معنى تخلق: يعني: تقدر، يخاطب الشاعر يقول: أنت تقدر، ثم تنفذ ما تقدر، وبعض الناس يقدر، ولا ينفذ، هو يمدح الشاعر، يقول: "ولأنت تفري" يعني: تنفذ ما خلقت، يعني: ما قدرت وصورت، وبعض القوم يخلق، ثم لا يفري.
فإذن: الخلق يطلق، ويراد به التقدير والتصوير، ويطلق، ويراد به الإنشاء والاختراع، والأول ثابت للمخلوق، والثاني لا يقدر عليه إلا الله، الإنشاء والاختراع.