وهذه هي هداية ثابتة للرسل والأنبياء والمصلحين والدعاة كلهم يقدرون عليها قال الله -تعالى- للنبي صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) } أي ترشد وتدل وتبلغ وتدعو، هذه هداية يقدر عليها الرسول - عليه الصلاة والسلام- ويقدر عليها الدعاة والمصلحون يهدون الناس هداية الدلالة والإرشاد والبيان والتبليغ والدعوة هذه خاصة بالمكلفين من الإنس والجن وليست للحيوانات ولا الطيور، هذه هداية يعني بيان وإرشاد الناس إلى الأمر الذي خلقوا له بيان ما أوجب الله عليهم من توحيده وطاعته وترك معصيته.
الله -تعالى- لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة حتى تقوم الحجة عليه وحتى يتبين له ما أوجب الله عليه، كما قال-تعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وقال -سبحانه-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥) } إذا بعث الرسول وأرشد الناس ودلهم على ما أوجب الله عليهم من التوحيد والطاعة واجتناب المعصية قامت الحجة عليهم. إذا قامت الحجة بعد ذلك استحقوا العذاب، إذا لم يعملوا، هذه هداية والبيان والدلالة والإرشاد، وهذه المرتبة ما أنكرها المعتزلة.
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام والتسديد وجعل الإنسان يقبل الحق ويرضاه ويختاره وخلق هداية القلب هذه خاصة بالله، لا يقدر عليها إلا الله، لا يقدر عليها أحد من الخلق لا الأنبياء ولا غيرهم وهذه هي المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم نفاها الله بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فهو لا يهدي يعني لا يخلق الهداية في القلب ولا يوفق ولا يلهم ولا يجعله يقبل الحق ويختاره ويرضاه إلا الله، ولو كانت هداية الدلالة والإرشاد لكان النبي صلى الله عليه وسلم أرشد من أحب ومن أبغض.
وقال سبحانه: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) } فالله -تعالى- يهدي ويضل، فالهداية والإضلال، بيد الله عز وجل والعبد هو الضال والمهتدي ولا بد في وقوع هذه الهداية من أمرين:
الأمر الأول: الهداية من الله، يعني يهديه الله.
والثاني: الاهتداء من العبد فإذا هداه الله واهتدى حصلت له الهداية بالتوفيق وكذلك الإضلال من الله، والعبد هو الضال إذا أضله الله فضل صار ضالا.
فالهداية والإضلال بيد الله عز وجل وقد اتفقت رسل الله وكتبه المنزلة على أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وهذه المسألة مسألة الهداية والإضلال مسألة عظيمة؛ لأن أفضل ما يقدره الله على العبد وأجل ما يقسمه له هو الهداية وأعظم ما يبتلي الله به العبد وأعظم مصيبة تصيبه هو أن يقدر الله عليه الإضلال، وكل نعمة فهي دون نعمة الهداية، وكل مصيبة هي دون مصيبة الإضلال، فلذلك كانت الهداية والإضلال بيد الله عز وجل.
هذه المرتبة أنكرها المعتزلة والقدرية أنكروها فأنكر عليهم أهل السنة وبدَّعُوهم وضللوهم، وهذا هو معنى قول المؤلف - رحمه الله-: "يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا ويضل من يشاء ويبتلي حكمة وعدلا ".
المعتزلة والقدرية قالوا: الهداية والإضلال بيد العبد وليس بيد الله الهداية والإضلال أنكروا هذه المرتبة. أنكر عليهم أهل السنة وقالوا: النصوص واضحة لأن الله - سبحانه وتعالى- بيده الهداية والإضلال قال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} لو كانت الهداية بيد العبد لما قيدها بالمشيئة {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ولكن الله -سبحانه وتعالى- خص المؤمن بنعمة دينية دون الكافر، كما قال -سبحانه-: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) } وقال -سبحانه-: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} .
هذه النعمة اختص الله بها المؤمنين اختصهم بنعمة دينية جعلهم يقبلون الحق ويرضون به ويختارونه وألهمهم إياه وخلق الهداية في قلوبهم فصاروا مهتدين. وله الفضل والإحسان. والكافر أضله الله خذله وأضله الله وابتلاه - كل ذلك -عدلا منه حكمة بالغة -سبحانه وتعالى-.