يعنى يقول قوم موسى -عليه الصلاة والسلام-: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) } سوف يحيط بنا فرعون ماذا نفعل؟ البحر أمامنا، فإن خضناه غرقنا، وفرعون وجيشه خلفنا، فإن وقفنا أدركنا، ماذا نفعل؟ {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) } فقال موسى: "كل"الستم بمدركين {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) } فأمر الله موسى فضرب البحر بعصاه فصار يبسا في الحال، اثني عشر طريقًا فسلكه موسى وقومه، وتبعه فرعون وقومه، فلما خرج موسى من الجهة الثانية وتكامل جيش فرعون أمر الله البحر ينطبق عليهم، وأن يعود إلى حالته، فإذًا الرؤية ثابتة، تراءى الجمعان فموسى نفى الإدراك، ولستم بمدركين فدل على أن الإدراك قدر زائد على الرؤية وهو الإحاطة، فالله -تعالى- يُرى ولكن لا يحاط به رؤية، لكمال عظمته، وكونه أكبر من كل شيء.
الجواب الثاني: أن الآية سيقت مساق المدح، الآية سيقت مساق المدح والمدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، أو بالنفي الذي يتضمن إثبات ضده من الكمال لا بالنفي المحض الآية سيقت مساق المدح، الله أثنى على نفسه بأنه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الآية سيقت مساق المدح، والمدح إنما يكون بشيئين:
الشيء الأول: الصفات الثبوتية كما يمدح نفسه بأنه بكل شيء قدير، وأحاط بكل شيء علمًا.
والثاني: النفي الذي يتضمن إثبات ضده من الكمال، كنفي السنة والنوم بكمال قيوميته {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} هذا نفي، لكن يتضمن إثبات ضده من الكمال حياته وقيوميته. لا يعجزه شيء لكمال قوته، واقتدار نفي الموت لكمال حياته {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩) } لكمال عدله، نفي الولد والشريك والصاحبة لكمال ربوبيته {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} لكمال علمه، فكذلك هذه الآية {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لكمال عظمته، وكونه أكبر من كل شيء، فالنفي المحض فالنفي.
فالكمال إنما يكون بالنفي الذي يتضمن إثبات ضده من الكمال كما في هذه الآيات، أو يكون بالصفات الثبوتية.
أما النفي المحض الصرف فهذا لا يكون كمالًا؛ لأن المعدوم يوصف بالنفي الصرف المحض والمعدوم لا يمدح، فلو كان المراد من الآية نفي الرؤية فقط لما كان كمالًا، ولما كان مدحًا لو قيل: معنى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لا تراه العيون، لم يكن في هذا مدح، المعدوم لا يُرى لو قال:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لو قيل: كان معنى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لو كان معنى الآية كما تقولون أيها النفاة {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لا تراه العيون، لم يكن في هذا مدح؛ لأن المعدوم لا يُرى، فما فائدة هذا النفي؟ ولكن إنما يكون كمالًا إذا تضمن إثبات ضده من الكمال وهو إثبات الرؤية ونفي الإدراك، والمعنى تراه الأبصار ولكن لا تحيط به، ولا تدركه لكمال عظمته ولكونه أكبر من كل شيء -سبحانه وتعالى- فتبين أن الآية تدل على إثبات الرؤية ولكن المنفي هو الإدراك وهو الإحاطة لكونه -سبحانه- أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء.
قالوا: وجه الدلالة من هذه الآيات أن الله -تعالى- أنكر على من سأل رؤيته وذمه، أنكر على هؤلاء حينما سألوا رؤية الله وذمهم وعاقبهم بالصاعقة، والصيحة بالصاعقة لظلمهم، فدل على أن الله لا يُرى في الآخرة، لو كان الله يرى لما أنكر على هؤلاء الذين طلبوا رؤية الله، وذمهم وعاقبهم بالصاعقة {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) } {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} {* وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (٢١) } فإذًا الذين سألوا رؤية الله ذمهم الله وعاقبهم وأنكر عليهم وعاقبهم بالصاعقة لظلمهم فدل على أن الله لا يُرى في الآخرة، هذا استدلال.