الدليل الأول: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، الدليل إذا قالوا: اللغة دليلهم، اللغة العربية معني الإيمان هو التصديق إذا لا يكون الإيمان إلا بالقلب، قالوا عندنا دليلنا اللغة، الإيمان هو التصديق بالقلب، قال الله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق لنا، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك.
إذا الدليل الأول قالوا: عندنا المعني اللغوي للإيمان هو التصديق، والدليل الآية الكريمة: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق، إذا الإيمان هو التصديق، فلا يكون التصديق إلا بالقلب، أما قول اللسان وأعمال الجوارح، فلا تدخل في مسمى الإيمان أجاب الجمهور عن هذا الدليل بجوابين أحدهما بالمنع، والثاني بالتسليم.
الجواب الأول بالمنع، قالوا: نمنع الترادف بين التصديق والإيمان، ولو صح الترادف في موضع، فلا يوجب ذلك الترادف مطلقا، إذ أن هناك فرقا بين الإيمان والتصديق من وجوه، أولا التعدية أنه يقال للمخبر إذا صدق المخبر في خبره صدقه، وصدق به، ولا يقال: آمنه ولا آمن به، بل يقال آمن له، كما في قوله تعالى: {* فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ} .
الثاني: العموم والخصوص بين الإيمان والتصديق، فإن التصديق أعم من الإيمان، والإيمان أخص منه، فإن التصديق يستعمل لغة في الخبر عن الشاهد والغائب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب.
الوجه الثالث: أن لفظ التصديق يقابله التكذيب، وأما لفظ الإيمان فيقابله الكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل هو أعم من ذلك، يشمل الكفر عن تكذيب، وعن جهالة وعن عناد.
الجواب الثاني: جوابهم بالتسليم، قال أهل السنة: نسلم أن التصديق والإيمان مترادفان، لكن نقول:
أولا: التصديق يكون بالأفعال كما يكون بالأقوال، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه)
وقال الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في الصدور وصدقه الأعمال.
ثانيا: سلمنا أن الإيمان والتصديق مترادفان لكن الإيمان تصديق مخصوص، كما أن الصلاة وإن كانت دعاء، فهي دعاء مخصوص.
ثالثا: سلمنا أن الإيمان التصديق، لكن التصديق التام بالقلب مستلزما لأعمال القلب والجوارح.
رابعا: سلمنا أن الإيمان التصديق، لكن لفظ الإيمان باق على معنى التصديق لغة، لكن الشارع زاد في أحكامه.
خامسا: سلمنا أن الإيمان هو التصديق، لكن الشارع استعمل لفظ الإيمان في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية في معناه الشرعي، هو حقيقة شرعية.
سادسا: سلمنا أن الإيمان التصديق، لكن الشارع نقل لفظ الإيمان عن معناه اللغوي إلي معناه الشرعي، هذا كل الجواب عن الدليل الأول للأحناف.
الدليل الثاني للأحناف على أن الإيمان هو التصديق، ولا يكون إلا بالقلب، قالوا: الإيمان ضد الكفر، الإيمان هو ضد الكفر، والكفر هو التكذيب والجحود، والتكذيب والجحود لا يكون إلا بالقلب، فكذلك التصديق لا يكون إلا بالقلب، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فدلت الآية على أن القلب هو موضع الإيمان.
أجاب الجمهور قالوا: قولكم: إن الكفر هو التكذيب والجحود ممنوع، فإن الكفر لا يختص بالتكذيب والجحود، بل أن الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط، ولا الكفر التكذيب والجحود فقط، فلو قال أنا أعلم أن الرسول صادق، ولكن لا أتبعه، بل أعاديه وأبغضه وأخالفه لكان كافرا، ولو لم يجحد كان كافرا أعظم الكفر.
الدليل الثالث: هو الدليل العقلي قال الأحناف الإيمان لو كان الإيمان مركبا من قول وعمل كما تقولون يا جمهور أهل السنة، لو كان الإيمان مركبا من قول وعمل لزال كله بزوال أجزائه، إذ الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة، فإنه إذا زال بعضها لم تبقى عشرة، وكذلك الأجسام المركبة، إذا زال أحد جزئيه زال عنه سوء التركيب، فإذا كان الإيمان مركبا من قول وعمل وتصديق وأعمال ظاهرة وباطنة لزم زواله بزوال بعضها.
أجاب الجمهور إن أردتم أن الحياة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء، بل يلزم زوال الكمال كما أن بدن الإنسان إذا ذهب منه إصبع أو يد أو رجل لم يكن ليخرج عن كونه إنسانا بالاتفاق، وإنما يقال إنسان ناقص، فكذلك الإيمان يبقي بعضه ويزول بعضه.
الدليل الرابع للأحناف: قالوا: إن الله تعالى فرق في كتابه بين الإيمان والعمل الصالح، فعطف العمل على الإيمان، والعطف يقتضي المغايرة، فقال تعالى في غير موضع: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فدل على أن العمل لا يكون داخلا في مسمى الإيمان.