ووجه التعارض: أن الآية تثبت جنس الحساب، والحديث يثبت هلاك من حوسب وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالحساب في الآية العرض، وفي الحديث المناقشة لا مطلق الحساب، كما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:(من نوقش الحساب عذب، فقلت: أليس يقول الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩) } فقال: إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك) .
وقراءة الكتاب أي صحف الأعمال: جمع صحيفة، وهي الكتب التي كتبتها الملائكة، وأحسن ما فعله الإنسان من سائر أعماله القولية والفعلية وغيرها، وإنما يؤتى بالصحف إلزاما للعباد، ودفعا للجدل والعناد، قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ك l جچّƒéعز وجل ur لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) } قال العلماء: معنى: طائره، عمله، وفي الآية الأخرى {فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١) } وهو القشر الذي يكون في شق النواة.
بعد هذا ننتقل إلى مبحث البعث والمعاد:
الإيمان بالمعاد مما يدل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فهو حق واقع يجب الإيمان به والتصديق، ومن لم يؤمن بالبعث، فهو كافر بنص القرآن وبإجماع المسلمين، فأخبر الله -سبحانه وتعالى- عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين في غالب سور القرآن، والقرآن بيَّن معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى، في غير موضع.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: معاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى، وقال الجلال الديواني: هو بإجماع أهل الملل وشهادة نصوص القرآن، والنصوص: نصوص البعث أكثر من النصوص التي في الصفات والأسماء، فالكلام في البعث في القرآن أكثر من الكلام في الرب، وسبب ذلك كثرة الإنكار للبعث، وقلة الإنكار للرب، وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري كلهم يقر بالرب فطرة إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون.
وزعم بعض الملاحدة أن أخبار البعث، ونصوصه من باب التخيير، ومنشأ هذا الزعم أن محمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء وكان قد بعث، هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي، أي أنه قفى النبيين، فجاء بعدهم فكان ختامهم، بين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء، فإنها أجملت ولم تفصل فزاد محمد صلى الله عليه وسلم على الأنبياء في تفصيل المعاد مما يتصل بالسؤال والشفاعة والحساب ودرجات أهل الجنة ودركات أهل النار؛ فلمجيء محمد صلى الله عليه وسلم بالتفصيل، ومن سبقه بالإجمال ظن طائفة من المتفلسفة، ونحوهم أنه لم يفصح في معاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم وجعلوا هذا حجة لهم في أنه من باب التخيير والخطاب الجمهوري، أي الحجج التي ترضي الجمهور، وإن كانت غير واقعية.
والقرآن بين معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء الملاحدة ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقولون إنه لم يخبر بذلك إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخيير والرد عليهم أن زعمهم هذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم إلى موسى وعيسي، وغيرهم -عليهم الصلاة والسلام- من حين أهبط آدم قال تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) } والذي أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع: أقسام وإخبار وإنذار، فالأقسام كما في قوله عز وجل {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} وقوله سبحانه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} وقال سبحانه: {* وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} .