إذن نقول: المذاهب في هذه المسألة ثلاثة: الجبرية: أثبتت الجبرية قدرة واحدة، وهي الأولى بمعنى التوفيق، فقالوا: لا تكون القدرة إلا مع الفعل، وهذا مذهب الجهمية والأشعرية والماتريدية، والمذهب الثاني: للقدرية والمعتزلة، أثبتوا قدرة واحدة، وهي الثانية التي بمعنى توفر الأسباب والآلات، فقالوا: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل، والمذهب الثالث: مذهب أهل السنة والجماعة، أثبتوا القدرة بنوعيها التي بمعنى التوفيق، والتي بمعنى توفر الأسباب والآلات.
من أدلة الجبرية: استدلوا بقول الله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) } قوله سبحانه: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} يعني لم يوفق هذه الاستطاعة بمعنى القدرة الموافقه للفعل {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) } فقوله سبحانه: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) } يعني ما كانوا يقدرون {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} يعني سمع القرآن والمواعظ يعني سمع التنفيذ والعمل، يعني ما كانوا يستطيعون ذلك؛ لأن الله لم يوفقهم، ما كانوا يقدرون على ذلك؛ لأن الله ما وفقهم؛ لأن الله خذلهم، فلم يوفقهم لسماع القبول والتنفيذ، فهم لا يقدرون؛ لأن الله لم يوفقهم.
نقول: هذا صحيح، نثبت النوع الأول للقدرة، لكن هناك نوع آخر أثبتته الأدلة الأخرى، وكذلك قول الله تعالى عن موسى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) } قول الخضر لموسى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) } هل موسى ما عنده أسباب وآلات يستطيع بها الصبر؟ لا عنده، والمعنى إنك لن تقدر، أن تسكت؛ لأن ما تراه مخالفا لظاهر الشرع، فموسى ما صبر. قال له الخضر: اصبر قال له موسى: سأصبر، قال له الخضر: لا ما تستطيع الصبر؛ ولذلك ما صبر موسى لما رآه خرق السفينة وقتل الغلام، وأقام الجدار أنكر؛ لأن موسى من شدة غيرته ما يسكت، فهو يرى أن ما فعله الخضر مخالفا لظاهر الشرع؛ ولذلك أنكر عليه، وليس المعنى أنه ليس معه استطاعة، وليس معه آلات.
وأما المعتزلة، فاستدلوا بقول الله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قالوا: فهذه الاستطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، ولو كان المراد بها الاستطاعة كما تقول الجبرية التي مع الفعل، لم يكن الله قد أوجب الحج إلا على من حج، وأما من لم يحج، فلا يطالب بالحج، هذا باطل، فدل على أن المراد بالاستطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، ومثله -أيضا- قول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أوجب الله التقوى على المستطيع، والمراد بالمستطيع الذي معه القدرة على التقوى، وليس المراد المستطيع الذي فعل التقوى في الحال، وإلا لما أوجب الله، وإلا لم تكن الاستطاعة واجبة إلا على من اتقى بالفعل، فدل على أن المراد بالاستطاعة، الاستطاعة بمعناها توفر الأسباب والآلات.
ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى عن المنافقين:{لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} المنافقون في غزوة تبوك تأخروا، فلما أنكر عليهم المسلمون قالوا: ما نستطيع {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} هل عندهم أسباب وآلات، يستطيعون الخروج أم ما عندهم؟ عندهم، فلو كان المراد بالاستطاعة نفس الفعل، لما كذبهم الله في قوله: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٤٢) } فدل على أن المراد بالاستطاعة معنى: الأسباب والآلات، عندهم قدرة، استطاعة، يستطيعون، يتجهزون، ويمشون مع المسلمين، لكن الله خذلهم.
والجواب: أجاب أهل السنة بأن الأدلة التي استدل بها الجبرية تثبت النوع الأول من القدرة، والأدلة التي استدل بها القدرية والمعتزلة تثبت النوع الثاني، وكل من الاستطاعتين حق، وقالوا لهم: أنتم أيها الجبرية أثبتم نوعا من الاستطاعة، واستدللتم له بالأدلة، وهذا حق، لكن الباطل كونكم أنكرتم النوع الثاني من الاستطاعة، وقالوا للقدرية والمعتزلة: أنتم أثبتم نوعا من القدرة والاستطاعة، وهي الاستطاعة بمعنى توفر الأسباب، وهذا حق، والنوع الأول لم تثبتوه، وهذا باطل، وأما نحن، فنثبت نوعي الاستطاعة، ونستدل بأدلتكم -أيها الجبرية- على النوع الأول، ونستدل بأدلتكم -أيها المعتزلة والقدرية- على النوع الثاني، وبذلك تتفق الأدلة ولا تختلف. نعم.
والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل.