الثاني: ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر، لكن العبارتان مختلفتان، مثال ذلك: الاختلاف في مرجع الضمير في قول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلى قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} ففيه أراء ثلاثة: مرجع الضمير، قيل: الضمير راجع إلى الله، وقيل: راجع إلى الكتاب، وقيل: راجع إلى الرسول، والمعنى واحد، أي: ليحكم الله أو الرسول بما جاء عن الله، أو ليحكم الكتاب المنزل من عند الله.
ثانيا: اختلاف كثير من الناس في ألفاظ الحدود وصوغ الأدلة، والتعبير عن المسميات. هذا أيضا مثال.
النوع الثالث من اختلاف التنوع: الاختلاف في الفروع الاجتهادية والظنية مثاله اختلاف سليمان ودواد -عليهما الصلاة والسلام- في الحكم في الحرث الذي رعته غنم، كما قال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ثم أثنى عليهما، وقال: {وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}
ثانيا: الاختلاف في قطع الأشجار لبني النضير لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير -وهم طائفة من اليهود- اختلف الصحابة في قطع الأشجار، فبعضهم قطع بعض النخيل، وبعضهم أبقاه، قال: نبقيها، فقطع قوم إغاظة للعدو حتى نغيظهم، وترك آخرون؛ لأنه مال سيعود إلى المسلمين، فالله تعالى أقر هؤلاء، وهؤلاء فأنزل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} لينة يعني: النخلة {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قائمةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}
ومثال آخر: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها حتى وصل إلى بني قريظة إلى بني قريظة، النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) فأدركتهم الصلاة في الطريق، فاختلفوا، فقال بعضهم: نصلي، الرسول صلى الله عليه وسلم أراد منا الحث، وقد حضر الوقت، فصلى قوم، وقال آخرون: لا نصلي حتى نصل إلى بني قريظة، فلا نصل إلا بعد الغروب، ولم يصلوا العصر إلا بعد الغروب، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء وهؤلاء.
ومثال آخر: حديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) أما اختلاف التضاد، وهو أن يوجد تناف وتناقض بين الأقوال أو القولين أو بين الأفعال أو الفعلين.
فهذا نوعان: ينقسم إلى قسمين: قسم في الأصول والقطعيات، وقسم في الفروع والظنيات في الأصول كالتوحيد، وهو نوعان: أحدهما لا يعذر فيه الإنسان، وهو ما علمه الشخص، كما في قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}
الاختلاف يؤدي إلى الإيمان والكفر، وقوله سبحانه: {* هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) } ثم ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
والثاني: مثال آخر مما يعذر فيه الإنسان: وهو ما لم يعلم الشخص حكمه، أو يشتبه عليه الأمر، وإن كان قطعيا كتحريم الخمر -مثلا- فهذا يلحق باختلاف التنوع.
ومثاله: الرجل الذي استحل الخمر في زمن عمر، فناقشه عمر حتى أقنعه، وهذا القسم لا يكون مذموما بالعصبية والهوى، أما النوع الثاني، وهو في الفروع كالمسائل الفقهية عند الجمهور، الذين يقولون: المصيب واحد، والخطب في هذا أشد؛ لأن القولين يتنافيان، الفرق بين اختلاف التنوع بأقسامه واختلاف التضاد بقسميه، الفرق بينهما أن اختلاف التنوع هو ما حمد فيه كل واحدة من الطائفتين، إذا لم يحصل بغي من إحداهما والذم فيه واقع على من بغى على الآخر.
وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين إذا لم يحصل منهما أو أحدهما بغي على الأخرى كما في الأمثلة السابقة: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قائمةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا} .
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بمن صلى العصر في وقتها أو في بني قريظة.
حديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) .
وأما اختلاف التضاد فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وذمت الأخرى، كما في الأمثلة السابقة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} {* هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}
متى يكون كل من أنواع اختلاف التنوع مذموما؟ ومتى يكون محمودا؟ .