وأما ما يتعلق بالتزام المستأمن بأحكام الإسلام، فنقول: يرى الإمام أبو حنيفة أن من يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام؛ فلا تطبق عليه أحكام الشريعة إذا ارتكب جريمة تمس حقًا لله -أي: تمس حقًا للجماعة- وإنما يعاقب بمقتضى الشريعة إذا ارتكب جريمة تمس حقًا للأفراد.
وإنما لا تقام عليه -بالنسبة لحقوق الله- لأنه لم يدخل دار الإسلام للإقامة، بل لحاجة يقضيها، وليس في الاستئمان ما يلزمه بجميع أحكام الشريعة في الجرائم، والمعاملات، بل هو ملزم فقط بما يتفق مع غرضه من دخول دار الإسلام، وبما يرجع إلى تحصيل مقصده، وهو حقوق العباد؛ فعليه أن يلتزم الإنصاف، وكف الأذى ما دمنا قد التزمنا بتأمينه بإنصافه، وكف الأذى عنه.
والقصاص، وحد القذف من حقوق العباد، ولذا فإنه يؤخذ بهما كما يؤخذ بغيرهما من الجرائم التي تمس حقوق الأفراد كالغصب، والتبديد، أما ما عدا ذلك من الجرائم التي تمس حقوق الأفراد؛ فلا تلزمه عقوبتها، مثل: الزنا، فأبو حنيفة إذن يرى أن العقوبات على الحدود أساسها الولاية، وليس للحاكم المسلم ولاية كاملة على المستأمن؛ إقامته لمدة معلومة.
ويرى أبو يوسف من الحنيفة، وجمهور الفقهاء: أن الشريعة تسرى على كل المقيمين في دار الإسلام، سواء كانت إقامتهم دائمة كالمسلم، والذمي، أو كانت إقامتهم مؤقتة كالمستأمن، ووجه ذلك: أن المستأمن التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات، والسياسات، ولهذا تقام عليه جميع الحدود ما عدا حد الشرب إذا ارتكب موجبه.
ونستخلص مما سبق أن المستأمن تطبق عليه القوانين الإسلامية التي تتعلق بالمعاملات المالية بالاتفاق؛ فإنه يمنع من التعامل بالربا مثلاً؛ لأنه يتعامل مع المسلمين؛ فلا يطبق عليه إلا قانون المسلمين، وبالنسبة للعقوبات؛ فقد اتضح أنه إذا ارتكب أمرًا فيه اعتداء على حق مسلم، أو ذمي، أو مستأمن آخر؛ فإنه ينزل به العقاب المقرر في الشريعة؛ لأنه يجب إقامة العدل، وإنصاف المظلوم من الظالم ما دام مقيمًا في دار الإسلام.
أما إذا كان الاعتداء على حق من حقوق الله تعالى كارتكاب الزنا؛ فإن جمهور الفقهاء قرروا أنه ينزل به العقاب الذي ينزل بالمسلم؛ لأن هذه الجريمة، وأشباهها تفسد المجتمع الإسلامي، وما جاء إلى ديارنا ليسعى فيها بالفساد.
وخالف جمهور الفقهاء في ذلك أبو حنيفة؛ حيث قال: لا تقام العقوبات على المستأمن بالنسبة لهذه الجرائم.
وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن دار الإسلام، ودار الحرب، ودار العهد، وما يترتب على ذلك التقسيم للدار من أثار بيناها -فيما سبق.