وما كاد يستقر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة؛ حتى عقد صلحًا دائمًا آخر مع طوائف المدينة، وفق فيه بين الأوس، والخزرج على أساس حسن الجوار، ومع اليهود أيضًا؛ فأقرهم فيه على دينهم، وعلى أموالهم، فكانت هذه المعاهدة أولَ معاهدة سياسية -بالمعنى الصحيح- بين المسلمين وقبائل المدينة، وبين اليهود -بفرقهم المختلفة- حرم فيها الاعتداء بين أطراف المعاهدة، والتزموا بالتعاون والتضامن لدرء العدوان الخارجي، وعقدوا بما يشبه التحالف الدفاعي المشترك بين شعبين، وأوجبوا على أنفسهم المساهمة في الإنفاق المشترك في سبيل الدفاع، ونحو ذلك؛ مما ينظم صلات المسلمين مع بعضهم، وصلاتهم بغيرهم كأمم، أو شعوبٍ متجاورة، وذلك يعد نموذجًا طيبًا للمبادئ الرائعة في تنظيم حالة السلم، والأمن الدوليين.
ونلاحظ على هذه المعاهدة شيوع روح الحذر فيها من اليهود الماكرين، وتقرير دعائم السلم الواجب، والاعتراف بالحرية الدينية، وإعلان مبدأ وحدة المسلمين، وتضامنهم، ومساواتهم في الدماء والأموال والحقوق، واستقلال كلٍ من المسلمين، واليهود مع بقاء حسن الجوار.
وتقرر هذه المعاهدة مبدأ مناصرة اليهود حالة الاعتداء عليهم، وأن الاعتداء على فئة مسلمة؛ اعتداء على كل الأمة الإٍسلامية، وأنه لا يحل مناصرة المجرم -أي: المحدث حدثًا- وأن حل النزاع يكون بالاحتكام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن كلًا من اليهود، والمسلمين أمة مستقلة، يربطهم تحالف عسكري؛ لصد عدوان غيرهم، وأن هناك حرية دينية لكلٍ من المسلمين، واليهود، وأن أي خلافٍ يحل بالوسائط السلمية، وبالتناصح والتشاور لا بالحرب، ونصت المعاهدة صراحة على مبدأ نصرة المظلوم، ونصرة الجار، وأن المناصرة في حربٍ تكون مشروعة، وأن قريشًا عدو الطرفين