وقعت هذه الغزوة المباركة في السابع عشر من شهر رمضان المعظم في السنة الثانية من الهجرة ... كان الإسلام المهاجر لا زال خافض الجناح في المدينة وكان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا زالوا تحت البلاء يمتحن الله صبرهم بالألم، ويختبر إيمانهم بالفتنة ليجتبيهم لنشر دعوته ويعلم الذين بصطفيهم لتبليغ رسالته، فلما أراد الله لدينه أن يسود ولمجده أن يعود، ولنوره أن يتم، أرسل جنوده الثلاثمائة نفر إلى وادي بدر يعتقبون على سبعين بعير، ويستعينون بصبر المجاهد على قلة الزاد وبعزة المؤمن على الذل، وبعفة الزاهد على الفاقة، كانوا يسيرون إلى بدر في استغراق الصوفي إلى ما وعدهم الله إحدى الطائفتين- العير أو النفير، أو إحدى الحسنيين: النصر أو الاستشهاد.
فموقف غزوة بدرمن الشرك كان موقف محنة، فإما أن يقود محمد - صلى الله عليه وسلم - زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك ...
وقفت مدنية الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد - صلى الله عليه وسلم - وراء القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب، فكان طريق وعقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان فإما أن يتمزق تراث الانسانية على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر، وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذا البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذا الطريق، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه المعركة الفاصلة ...
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمام العريش يدعو ربه ووجهه إلى القبلة، ويداه إلى السماء، ورداؤه من الذهول في الله يسقط عن منكبيه فيقول:"اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض"(١) فيرد الصديق عليه رداءه، ويقول بعض هذا يا نبي الله فإن ربك منجز وعده، وما هي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل
(١) شطر من حديث طويل في غزوة بدر. أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس