فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار، لأن النبي وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك الواجب من غير عذر. إذ أن المقلد غير آثم على ترك النظر بل إيمانه ثابت وصحيح ويشهد لذلك ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد "عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك" من أهل فدك وغيرهم من الأخبار الكثيرة قال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} وقد روي مرفوعا أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن شرح الصدر فقال:"نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح صدره"(١). فصرح أنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال.
وقد صرح بعض المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو علم ضروري وجدوه في أنفسهم لم يقدروا على دفعه.
ومن أهل الفطرة من وجد فيه الإيمان كذلك بل قد صرحوا بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل. وقال الإمام الغزالي حجة الإسلام في كتابه "فيصل التفرقة" ومن أشد الناس غلوا ونكرا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررنا بها فهو كافر ..
فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جعلوا ما تواترت به السنة وراء ظهورهم، وظهر في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعصر الصحابة باسلام على طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الأوثان ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها ومن ظن أن الإيمان بالكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد النجعة بل إن الإيمان نور يقذفه الله في قلب عبده عطية وهداية من عنده تارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين سرى نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينه حال.