للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فتردد الله تعالى ليس منشأه عدم الجزم بأحد الطرفين، أو عدم العلم بعواقب الأمور، وإنما هو تردد مفسر في الحديث نفسه، حيث قال: (يكره الموت، وأكره مساءته) فهذا هو حقيقة تردده سبحانه، وهو كون الفعل مرادًا لله تعالى من وجه، ومكروهًا له من وجه، فهو يريد الموت لعبده، لأنه قد قضى به عليه، ولا بد له منه، ومع ذلك فهو يكرهه لأنه يكره ما يكرهه عبده، ولذلك قال: (وأنا أكره مساءته).

وهذا المعنى للتردد يحصل من المخلوق أيضًا، فالمريض مثلًا يريد الدواء الكريه لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، المتمثلة في كونه كريهًا، سواء في طعمه أو رائحته أو غير ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الواحد منا يتردد تارةً لعدم العلم بالعواقب، وتارةً لما في الفعلين من المصالح والمفاسد فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه كما قيل:

الشيب كره وكره أن أفارقه ... فأعجب لشيء على البغضاء محبوب (١)

وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: (حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره) (٢)،


= الحديث في البخاري، وعزا ابن تيمية الحديث بهذه الزيادة إلى البخاري في أكثر من موضع، [انظر: مجموع الفتاوى (٢/ ٣٧١، ٣٩٠، ٢٢٥)، و (١٧/ ١٣٤)] وكذا ابن القيم في الجواب الكافي (٣١٥) لكن هذه الزيادة ليست في رواية البخاري، فلعلهما أرادا أصل الحديث، والله أعلم.
(١) هذا البيت لبشار بن برد، انظر: ديوانه (٤٤٠) لكن فيه اختلاف يسير عما ذكره ابن تيمية، فهو في ديوانه هكذا:
الشيب كره وكره أن يفارقني ... أَعجِب بشيء على البغضاء مودود
(٢) متفق عليه، من حديث أبي هريرة: البخاري (٥/ ٢٣٧٥) ح (٦١٢٢)، ومسلم واللفظ له (١٧/ ١٧١) ح (٢٨٢٢).

<<  <   >  >>