للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والتحقيق خلاف ما عليه الخطيب وغيره؛ إذ أن اختصاص النبي عليه السلام بشريعة وبقوم يُبعث إليهم يجب أن لا ينفي حجة عمل شريعة بأحكام من سبقتها، فهنالك أحكام تقتضي النسخ والتغيير كالأحكام الطارئة العارضة التي تختص بقوم وزمن معين، وكالأحكام التي تحتاج إلى التخفيف أو التشديد، أو تحتاج إلى الزيادة عليها في التفصيل، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، فهذه هي الأحكام التي تختص بها كل شريعة، ويقابلها أحكام ثابتة لا تُنسخ ولا تتغير، كحكم تحريم القتل والزنا والسرقة، فهذه يُؤخذ ويُعمل بها في كل الشرائع، وكذلك أحكام الشرائع السابقة التي وردت في القرآن الكريم، والسُنَّة على وجه المدح والتقرير والسكوت عليها، يؤخذ ويُحكم بها في الشريعة.

وقد ذهب الجمهور إلى الأخذ والحُكم بأحكام شرع من قبلنا ما لم تنسخها أحكام الشريعة وما لم تُخالف الشريعة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠]، وبقوله تعالى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: ١٢٣]، وبما في صحيح البخاري وغيره: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالقصاص في السِنّ، وقال: (كتاب الله القصاص) (١) وليس في القرآنِ: السنُّ بالسنِّ، إلا ما حُكي فيه عن التوراة بقوله عزَّ وجلَّ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: ٤٥]، فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم بشرائع الأنبياء السابقين إذ قضى بحُكم التوراة، ولو لم يكن شرعًا له لما قضى به.


(١) أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر) [البقرة: ١٧٨]، برقم (٤٥٠٠)، (٦/ ٢٤).

<<  <   >  >>