ولهذا لا يجوز نسبة القول إلى هؤلاء الحفّاظ أنَّهم يشترطون اللقاء ولا يكتفون بالمعاصرة، ولو لم يوجد سببٌ مانعٌ من ذلك من تلك الأسباب ونحوها، فإن لهم - لسعة حفظهم وقوّة إدراكهم - ملاحظاتٍ وتعليلاتٍ قد تخفى على الكثيرين؛ وبخاصّةٍ المتأخِّرين من أمثالنا، فتكون ملاحظاتهم سبباً مانعاً من الاحتجاج بالمعاصرة أحياناً، كما هو الشأن عند القائلين بها، الذين اشترطوا إمكان اللقاء مع السلامة من التدليس، فإِذا انتفى سببٌ من الأسباب المانعة، احتجَّ المحققون بالمعاصرة مع إمكان اللقاء، وإليك بعضَ الأمثلة:
١ - مجاهد عن عائشة: أنكر غير واحد سماعه منها، كما رواه ابن أبي حاتم في "المراسيل"(ص ١٢٥)، وأجاب العلائي (٣٣٦/ ٧٣٦) بقولِهِ: "قلت: وحديثه عنها في "الصحيحين"، وقد صرَّح في غير حديث بسماعه منها"(١).
وأقول: أحدها في "الصحيحّين"(١٧٧٦ - خ)، (٤/ ٦١ - م)، وليس هذا هو اليقصودَ هنا، وإِنَّما هو قول ابن حبّان عَقِبَ حديثما مجاهد عن عائشة مرفوعاً:"لا تسبّوا الأموات، فإِنَّهم أفضَوا إلى ما قدَّموا" - ورواه البخاري (١٣٩٣ و ٦٥١٦) -، قال ابن حبان (٧/ ٢٩١):
"ماتت عائشة سنة سبع وخمسين، وولد مجاهد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، فَدَلّك هذا على أنَّ من زعم أنَّ مجاهداً لم يسمع من عائشة؛ كان واهياً في قوله ذلك".
٢ - يعقوب مولى الحُرَقة، قال: قال عمر بن الخطاب ... فذكر أثراً له أخرجه التِّرمذي، وقالما (٤٨٧):
"حسن غريب ... ، ويعقوب - جد العلاء -؛ من كبار التابعين، قد أدرك عمر بن الخطاب، وروى عنه".