وَالْجُمْهُورُ أَلْغَوْا جِهَةَ الْمَعْصِيَةِ مِنْ الضَّرَرِ لِدَفْعِهِ ضَرَرَ الْمُكْثِ الْأَشَدِّ، كَمَا أُلْغِيَ ضَرَرُ زَوَالِ الْعَقْلِ فِي إسَاغَةِ اللُّقْمَةِ الْمَغْصُوصِ بِهَا بِخَمْرٍ حَيْثُ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا لِدَفْعِهِ ضَرَرَ تَلِفَ النَّفْسِ الْأَشَدِّ (وَهُوَ) أَيْ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ (دَقِيقٌ) كَمَا تَبَيَّنَ.
وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّهُ بَعِيدٌ حَيْثُ اسْتَصْحَبَ الْمَعْصِيَةَ مَعَ انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ النَّهْيِ وَيَدْفَعُ اسْتِبْعَادُهُ
ــ
[حاشية العطار]
يَكُونُ مَأْمُورًا بِفِعْلِ مَا مُنِعَ مِنْهُ وَإِلْزَامِ تَرْكِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هِيَ مَعْصِيَةٌ حُكْمِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَصْحَبَ حُكْمَ السَّابِقَةِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ لِإِضْرَارِهِ الْآنَ بِالْمِلْكِ إضْرَارًا نَاشِئًا عَنْ تَعَدِّيهِ السَّابِقِ مَعَ انْقِطَاعِ النَّهْيِ الْآنَ عَنْهُ وَعَنْ عَدَمِ إلْزَامِهِ بِالتَّرْكِ فَالْفِعْلُ مَقْدُورٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ وَلَا مُخَاطَبٌ بِتَرْكِهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ اسْتَصْحَبَهُ عِصْيَانُهُ السَّابِقُ تَغْلِيظًا وَمُجَرَّدُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَجْزَهُ عَنْ الْفِعْلِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، فَالشَّارِحُ إنَّمَا قَصَدَ التَّنْبِيهَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَكَمَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِدَفْعِهِ الِاسْتِبْعَادَ الْآتِي، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَيْسَ قَصْدَهُ إلَّا تَوْجِيهُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَإِزَالَةُ الشُّبْهَةِ عَنْهُ وَبِمَا ذَكَرَ يَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا يُقَالُ لَا يَجُوزُ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ جِهَتَا طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ مُتَلَازِمَتَانِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْجِهَتَيْنِ إذَا انْفَكَّتْ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتَوَجَّهُ حَيْثُ كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ حَقِيقِيَّةً وَهِيَ هُنَا اسْتِصْحَابِيَّةٌ حُكْمِيَّةٌ اهـ. مُلَخَّصًا.
وَأَقُولُ: هَذَا السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ مِنْ نَاحِيَةِ مَا تَقَدَّمَ وَلِلشَّيْخِ الْكَمَالِ وَكَلَامُ الْإِمَامِ فِي غُنْيَةً عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّهُ قَرَّرَ السُّؤَالَ وَجَوَابَهُ، فَلَوْ أَنَّهُمْ وَقَفُوا عَلَى تَمَامِ كَلَامِهِ مَا أَطَالُوا بِهَذَا كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَهُ الشَّارِحُ لَكِنَّ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ الِاخْتِصَارُ، وَقَوْلُ سم إنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ إلَخْ ذُهُولٌ عَمَّا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ فَصَوَابُ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ جِهَتَا طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ مُتَلَازِمَانِ وَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ لِلُزُومِ الْفَسَادِ بِالتَّنَاقُضِ وَمَا هُنَا مَأْمُورٌ بِهِ فَأَيْنَ الْفَارِقُ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّ ذَاكَ فِيمَا إذَا كَانَ النَّهْيُ تَحْقِيقًا وَمَا هُنَا النَّهْيُ فِيهِ اسْتِصْحَابِيٌّ تَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَالْجُمْهُورُ أَلْغَوْا إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ قَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي الْفُرُوقِ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى تَأْثِيمِ مَنْ دَخَلَ أَرْضًا غَاصِبًا، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا قَصَدَ الْخُرُوجَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِخُرُوجِهِ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ بِخُرُوجِهِ لِلْغَصْبِ اهـ.
(قَوْلُهُ: دَقِيقٌ) حَيْثُ اعْتَبَرَ بَقَاءَ الْمَعْصِيَةِ لِبَقَاءِ مَا تَسَبَّبَ فِيهِ وَالطَّاعَةُ لِلْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ.
(قَوْلُهُ: كَمَا تَبَيَّنَ) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ فَاعْتَبَرَ فِي الْخُرُوجِ إلَخْ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ إلَخْ) هَذَا عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ دِقَّةُ الِاسْتِحْسَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ دِقَّةَ الْخَفَاءِ فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ.
(قَوْلُهُ: حَيْثُ اسْتَصْحَبَ الْمَعْصِيَةَ إلَخْ) أَيْ وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ النَّهْيِ مَعَ انْقِطَاعِ تَعَلُّقِهِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ دَفَعَهُ الشَّارِحُ بِإِيرَادِ نَظِيرٍ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ وَهُوَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ مَعْصِيَةِ الرِّدَّةِ مِنْ التَّغْلِيظِ بِإِيجَابِ قَضَاءِ مَا فَاتَ الْمُرْتَدُّ زَمَنَ جُنُونِهِ مَعَ انْقِطَاعِ تَعَلُّقِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ مِنْ النَّهْيِ وَغَيْرِهِ بِالْجُنُونِ قَالَهُ الْكَمَالُ وَالْحَيْثِيَّةُ لِلتَّعْلِيلِ، وَقَدْ اعْتَرَضَ النَّاصِرُ بِأَنَّ كَلَامَ الشَّارِحِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْشَأَ الِاسْتِبْعَادِ عِنْدَ مُجَرَّدِ انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ النَّهْيِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ عِنْدَهُ انْتِفَاءُ تَعَلُّقِ النَّهْيِ وَثُبُوتُ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ، وَنَصَّ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ الْخُرُوجُ لِلْأَمْرِ قَطَعَ بِنَفْيِ الْمَعْصِيَةِ بِشَرْطِهِ وَقَوْلُ الْإِمَامِ بِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْخُرُوجِ وَلَا نَهْيَ بَعِيدٌ. اهـ.
قَالَ الْعَضُدُ فِي تَقْرِيرِهِ قَالَ الْإِمَامُ بِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِ مَعَ إيجَابِهِ الْخُرُوجَ وَهُوَ بَعِيدٌ اهـ.
وَإِذَا ظَهَرَ لَك أَنَّ الْمُسْتَبْعَدُ إنَّمَا هُوَ اسْتِصْحَابُ الْمَعْصِيَةِ حَالَ عَدَمِ سَبَبِهَا وَوُجُودِ ضِدِّهَا ظَهَرَ لَك أَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ غَيْرُ دَافِعٍ لِذَلِكَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ ضِدُّهَا التَّوْبَةُ مِنْهَا لَا الْجُنُونُ الَّذِي شَأْنُهُ فِي الشَّرْعِ أَيْ: يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ مَا قَبْلَهُ مِنْ إسْلَامٍ أَوْ كُفْرٍ. وَالِاسْتِصْحَابُ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّمَا هُوَ حَالُ الْجُنُونِ لَا التَّوْبَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَا يَصْلُحُ بِمُجَرَّدِهِ أَنْ يَكُونَ دَافِعًا لِقَوْلِ بَعْضٍ آخَرَ اهـ.
وَرَدَّهُ سم بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ كَذَلِكَ وَاحْتِجَاجُهُ بِعِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ احْتِجَاجٌ مَمْنُوعٌ بَلْ ظَاهِرُهَا مَعَ