للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِدْرَاكَ مَلْزُومُهَا لَا هِيَ (وَيُقَابِلُهَا الْأَلَمُ) فَهُوَ عَلَى الْأَخِيرِ إدْرَاكُ غَيْرِ الْمُلَائِمِ (وَمَا تَصَوَّرَهُ الْعَقْلُ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ أَوْ مُمْكِنٌ لِأَنَّ ذَاتَهُ) أَيْ الْمُتَصَوَّرَةَ (إمَّا أَنْ تَقْتَضِيَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِج أَوْ عَدَمَهُ أَوْ لَا تَقْتَضِيَ شَيْئًا) مِنْ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِهِ وَالْأَوَّلُ الْوَاجِبُ وَالثَّانِي الْمُمْتَنِعُ وَالثَّالِثُ الْمُمْكِنُ

(خَاتِمَةٌ) فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ الْمُصَفِّي لِلْقُلُوبِ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ تَجْرِيدُ الْقَلْبِ لِلَّهِ

ــ

[حاشية العطار]

فَالْإِدْرَاكُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُلَاءَمَةِ لَا يَكُونُ لَذَّةً كَالصَّفْرَاوِيِّ لَا يَلْتَذُّ بِالْحُلْوِ (قَوْلُهُ وَالْحَقُّ إلَخْ) قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَالْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكِ الْوُصُولُ إلَى ذَاتِ الْمُلَائِمِ لَا إلَى مُجَرَّدِ صُورَتِهِ فَإِنَّهُ تَخَيَّلَ اللَّذِيذَ غَيْرَ اللَّذَّةِ وَلِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ مَا قَالَ ابْنِ سِينَا أَنَّ اللَّذَّةَ إدْرَاكٌ وَنَيْلٌ لِوُصُولِ مَا هُوَ عِنْدَ الْمُدْرِكِ كَمَالٌ وَخَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ، وَالْأَلَمُ إدْرَاكٌ وَنَيْلٌ لِوُصُولِ مَا هُوَ عِنْدَ الْمُدْرِكِ آفَةٌ وَشَرٌّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ فَذَكَرَ مَعَ الْإِدْرَاكِ النَّيْلَ أَعْنِي الْإِصَابَةَ وَالْوُجْدَانَ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِحُصُولِ صُورَةٍ تُسَاوِيهِ وَنَيْلُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُصُولِ ذَاتِهِ وَاللَّذَّةُ لَا تَتِمُّ بِحُصُولِ مَا يُسَاوِي اللَّذِيذَ إنَّمَا تَتِمُّ بِحُصُولِ ذَاتِهِ وَذَكَرَ الْوُصُولَ؛ لِأَنَّ اللَّذَّةَ لَيْسَتْ هِيَ إدْرَاكُ اللَّذِيذِ فَقَطْ بَلْ هِيَ إدْرَاكُ حُصُولِ اللَّذِيذِ لِلْمُلْتَذِّ وَوُصُولُهُ إلَيْهِ (قَوْلُهُ: إدْرَاكُ غَيْرِ الْمُلَائِمِ) أَيْ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الْمُلَاءَمَةِ وَحَذَفَ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالْمُقَابِلِ.

(قَوْلُهُ: وَمَا تَصَوَّرَهُ الْعَقْلُ) أَيْ حَصَلَتْ صُورَتُهُ فِيهِ فَشَمِلَ ذَلِكَ التَّصْدِيقَ أَيْضًا لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ أَنَّ هَلْ إمَّا بَسِيطَةٌ يُطْلَبُ بِهَا وُجُودُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مُرَكَّبَةٌ يُطْلَبُ بِهَا وُجُودُ شَيْءٍ لِشَيْءٍ فَإِذَا نُسِبَ الْمَفْهُومُ إلَى وُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ وُجُودِهِ لِأَمْرٍ حَصَلَ فِي الْعَقْلِ مَعَانٍ هِيَ الْوُجُوبُ وَالِامْتِنَاعُ وَالْإِمْكَانُ ثُمَّ إنَّ تَصَوُّرَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي ضَرُورِيَّةٌ حَاصِلَةٌ لِمَنْ لَمْ يُمَارِسْ طُرُقَ الِاكْتِسَابِ إلَّا أَنَّهَا قَدْ تُعَرَّفُ تَعْرِيفَاتٍ لَفْظِيَّةً فَيُقَالُ الْوُجُوبُ ضَرُورَةُ الْوُجُودِ أَوْ اقْتِضَاؤُهُ أَوْ اسْتِحَالَةُ الْعَدَمِ وَالِامْتِنَاعُ ضَرُورَةُ الْعَدَمِ أَوْ اقْتِضَاؤُهُ أَوْ اسْتِحَالَةُ الْوُجُودِ، وَالْإِمْكَانُ جَوَازُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَوْ عَدَمُ ضَرُورَتِهِمَا أَوْ عَدَمُ اقْتِضَاءِ شَيْءٍ مِنْهُمَا وَلِهَذَا لَا يَتَحَاشَى عَنْ أَنْ يُقَالَ الْوَاجِبُ مَا يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ أَوْ مَا لَا يُمْكِنُ عَدَمُهُ وَالْمُمْتَنِعُ مَا يَجِبُ عَدَمُهُ أَوْ مَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَالْمُمْكِنُ مَا لَا يَجِبُ وُجُودُهُ وَلَا عَدَمُهُ أَوْ مَا لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ وَلَا عَدَمُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَصْدُ إلَى إفَادَةِ تَصَوُّرَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي لَكَانَ دَوْرًا ظَاهِرًا (قَوْلُهُ: إمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ وُجُودَهُ) أَيْ بِأَنْ لَا يَكُونَ وُجُودُهُ مُتَوَقِّفًا عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ أَنَّ اللَّذَّاتِ عِلَّةٌ فِي نَفْسِهَا.

[خَاتِمَةٌ فِي مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ الْمُصَفِّي لِلْقُلُوبِ]

(خَاتِمَةٌ فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ) (قَوْلُهُ: مِنْ مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ) ظَاهِرٌ أَنَّ التَّصَوُّفَ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ الَّتِي لَهَا مَبَادِئُ وَمَقَاصِدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ ثَمَرَةُ جَمِيعِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَآلَاتُهَا لَا أَنَّهُ قَوَاعِدُ مَخْصُوصَةٌ وَإِنْ أُفْرِدَ بِالتَّأْلِيفِ ثُمَّ هُوَ قِسْمَانِ قِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّأَدُّبِ بِجَمِيلِ الْآدِبِ كَقُوتِ الْقُلُوبِ وَإِحْيَاءِ الْغَزَالِيِّ وَمُؤَلَّفَاتِ سَيِّدِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِيِّ وَغَيْرِهَا فَهَذَا وَاضِحٌ جَلِيٌّ يُدْرِكُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ لِلْعُلُومِ وَقِسْمٌ مَرْجِعُ أَرْبَابِهِ فِيهِ إلَى الْمُكَاشَفَاتِ وَالْأَذْوَاقِ وَمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ التَّجَلِّيَاتِ وَكَمُؤَلَّفَاتِ سَيِّدِي الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَالْجِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا نَحَا مَنْحَاهُمَا فَهَذَا مِنْ الْغَوَامِضِ الَّتِي لَا يَفْهَمُهَا إلَّا مَنْ ذَاقَ مَذَاقَهُمْ وَقَدْ لَا تَفِي عِبَارَتُهُمْ بِشَرْحِ الْمَعَانِي الَّتِي أَرَادُوهَا بَلْ رُبَّمَا صَادَمَتْ بِحَسَبِ ظَوَاهِرِهَا الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ فَالْأَوْلَى عَدَمُ الْخَوْضِ فِيهِ وَيُسَلَّمُ لَهُمْ حَالُهُمْ:

وَإِذَا كُنْتَ بِالْمَدَارِكِ غِرًّا ... ثُمَّ أَبْصَرْتَ حَاذِقًا لَا تُمَارِي

وَإِذَا لَمْ تَرَ الْهِلَالَ فَسَلِّمْ ... لِأُنَاسٍ رَأَوْهُ بِالْأَبْصَارِ

(قَوْلُهُ: الْمُصَفِّي لِلْقُلُوبِ) إشَارَةٌ لِوَجْهِ تَسْمِيَتِهِ بِالتَّصَوُّفِ أَنْشَدَ الشَّيْخُ ابْنُ الْحَاجِّ فِي كِتَاب الْمَدْخَلُ:

لَيْسَ التَّصَوُّفُ لُبْسَ الصُّوفِ تُرْقِعُهُ ... وَلَا بُكَاؤُكَ إنْ غَنَّى الْمُغَنُّونَا

وَلَا صِيَاحٌ وَلَا رَقْصٌ وَلَا طَرَبٌ ... وَلَا اخْتِبَاطٌ كَأَنْ قَدْ صِرْتَ مَجْنُونَا

بَلْ التَّصَوُّفُ أَنْ تَصْفُو بِلَا كَدَرٍ ... وَتَتْبَعَ الْحَقَّ وَالْقُرْآنَ وَالدِّينَا

وَأَنْ تُرَى خَاشِعًا لِلَّهِ مُكْتَئِبًا ... عَلَى ذُنُوبِكَ طُولَ الدَّهْرِ مَحْزُونَا

<<  <  ج: ص:  >  >>