للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ تَفَقَّهَ عَلَى الْأَوَّلِ إنْ أَرَادَ بِعَدَمِ الْفِسْقِ الْجَوَازَ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ وَامْتِنَاعُ التَّتَبُّعِ شَامِلٌ لِلْمُلْتَزِمِ وَغَيْرِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَقْيِيدُ الْجَوَازِ السَّابِقِ فِيهِمَا بِمَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى تَتَبُّعِ الرُّخَصِ.

(مَسْأَلَةٌ اُخْتُلِفَ فِي التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ)

ــ

[حاشية العطار]

اتِّبَاعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ إذْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْلُكَ الْمَسْلَكَ الْأَخَفَّ عَلَيْهِ إنْ كَانَ لَهُ إلَيْهِ سَبِيلٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِقَوْلٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ الْأَخَفِّ اهـ.، وَقَالَ ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ التَّشْدِيدَاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي الْمُنْتَقِلِ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ إلْزَامَاتٌ مِنْهُمْ لِكَفِّ النَّاسِ عَنْ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ، وَإِلَّا فَأَخْذُ الْعَامِّيِّ بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ يَكُونُ قَوْلُهُ أَخَفَّ عَلَيْهِ لَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ مِنْهُ عَقْلًا وَشَرْعًا اهـ.

هَذَا مَا نَقَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَامِّيِّ إذَا قَلَّدَ إمَامًا فِي مَسْأَلَةٍ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْمَذَاهِبُ يَسْأَلُونَ فِيمَا يَسْنَحُ لَهُمْ الْعُلَمَاءُ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ سَوَاءٌ اتَّبَعَ الرُّخْصَ فِي ذَلِكَ أَوْ الْعَزَائِمَ؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمُصِيبَ وَاحِدًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَمَنْ جَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فَلَا إنْكَارَ عَلَى مَنْ قَلَّدَهُ بِالصَّوَابِ، وَأَمَّا مَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ حَزْمٍ مِنْ حِكَايَتِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ مِنْ الْمَذَاهِبِ فَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَتَبَّعَهَا عَنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِمَنْ قَالَ بِهَا أَوْ عَلَى الرُّخَصِ الْمُرَكَّبَةِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ نَقَلَهُ عَنْ السَّيِّدِ السَّمْهُودِيِّ.

فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ جَوَازُ التَّقْلِيدِ وَجَوَازُ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ مَا اعْتَبَرَهُ الْمُجْتَهِدُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَ التَّقْلِيدُ فِيهَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّتُهَا كَيْ لَا يَقَعَ فِي حُكْمٍ مُرَكَّبٍ مِنْ اجْتِهَادَيْنِ كَمَا إذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ لَمْسٍ مُجَرَّدٍ عَنْ الشَّهْوَةِ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ، وَهَذَا عَمَلُ مَنْ مَنَعَ التَّلْفِيقَ فِي التَّقْلِيدِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّلْفِيقُ فِي أَجْزَاءِ الْحُكْمِ لَا فِي جُزْئِيَّاتِ الْمَسَائِلِ كَمَا نَقَلْنَاهُ، وَنَقَلَ الْإِسْنَوِيُّ فِي تَمْهِيدِهِ عَنْ الْقَرَافِيِّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ جَوَازُ تَقْلِيدِ مَذْهَبِ الْغَيْرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْقِعًا فِي أَمْرٍ يُجْمِعُ عَلَى إبْطَالِهِ إمَامُهُ الْأَوَّلُ وَإِمَامُهُ الثَّانِي فَمَنْ قَلَّدَ مَالِكًا مَثَلًا فِي عَدَمِ النَّقْضِ بِاللَّمْسِ الْخَالِي عَنْ الشَّهْوَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُدَلِّكَ بَدَنَهُ وَيَمْسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، وَإِلَّا فَتَكُونُ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً عِنْدَ الْإِمَامَيْنِ اهـ.

قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَمِنْ فُرُوع هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ تَقْلِيدًا لِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ بِلَا شُهُودٍ تَقْلِيدًا لِمَالِكٍ وَوَطِئَ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ فَلَوْ نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَيْضًا حُدَّ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَيْنِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْبُطْلَانِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ وَالتَّتَبُّعُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُدَوَّنَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِمْ الْآنَ وَهُمْ الْأَرْبَعَةُ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ بِمَوْتِ أَصْحَابِهِمْ انْقَرَضَتْ مَذَاهِبُهُمْ، وَقَدْ كَانُوا كَثِيرِينَ أَوَّلًا وَيُقَيَّدُ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ بِقَيْدٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْعَزَائِمَ رَأْسًا بِحَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ إلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ.

وَأَمَّا الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فَقَدْ مَنَعَ تَتَبُّعَ الرُّخَصِ قَائِلًا إنَّ الْعَوَامَّ وَالْفُقَهَاءَ وَكُلَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْصِبَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْ تَقْلِيدِ إمَامٍ وَاتِّبَاعِ قُدْوَةٍ إذْ تَحْكِيمُ الْعُقُولِ الْقَاصِرَةِ الذَّاهِلَةِ عَنْ مَأْخَذِ الشَّرْعِ مُحَالٌ وَتَخَيُّرُ أَطْيَبِ الْمَذَاهِبِ وَأَسْهَلِ الْمَطَالِبِ بِالْتِقَاطِ الْأَخَفِّ وَالْأَهْوَنِ مِنْ مَذْهَبِ كُلِّ ذِي مَذْهَبٍ مُحَالٌ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ التَّمْيِيزِ وَالتَّشَهُّرِ، وَيَتَّسِعُ الْخَرْقُ عَلَى فَاعِلِهِ فَيَنْسَلُّ عَنْ مُعْظَمِ مَضَايِقِ الشَّرْعِ بِآحَادِ التَّوَسُّعَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ أَئِمَّةُ الشَّرْعِ فِي آحَادِ الْقَوَاعِدِ عَلَى رَدِّهَا وَالْآخَرَانِ اتِّبَاعُ الْأَفْضَلِ مُتَحَتِّمٌ وَتَخَيُّرُ الْمَذَاهِبِ يَجُرُّ لَا مَحَالَةَ إلَى اتِّبَاعِ الْأَفْضَلِ تَارَةً وَالْمَفْضُولِ أُخْرَى وَلَا مُبَالَاةَ بِقَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ الْخِيَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ تَلَقِّيًا مِنْ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَسَادَهُ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَقَدْ تَفَقَّهَ عَلَى الْأَوَّلِ) أَرَادَ تَقْوِيَةَ الْأَوَّلِ (قَوْلُهُ: لِلْمُلْتَزِمِ وَغَيْرِهِ) وَهُوَ صَاحِبُ الْحَادِثَةِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ لَهُ وَإِذَا عَمِلَ الْعَامِّيُّ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ فِي حَادِثَةٍ (قَوْلُهُ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ شُمُولِ الِامْتِنَاعِ وَضَمِيرُ التَّثْنِيَةِ يَعُودُ لِلْمُلْتَزِمِ وَغَيْرِهِ.

[التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ]

(قَوْلُهُ: فِي التَّقْلِيدِ هُوَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ قِلَادَةً فِي عُنُقِهِ فَهُوَ تَابِعٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>