للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيْ يَقَعُ فِي الْوَهْمِ أَيْ الذِّهْنِ مِنْ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ كَقَضَاءِ شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ أَوْ خَيَالِيَّةٍ كَحُبِّ الِاسْتِعْلَاءِ وَالرِّيَاسَةِ فَهُوَ دَفْعُ الْأَلَمِ فَلَذَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ دَفْعُ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَدَغْدَغَةِ الْمَنِيِّ لِأَوْعِيَتِهِ وَلَذَّةُ الِاسْتِعْلَاءِ وَالرِّيَاسَةِ دَفْعُ أَلَمِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.

(وَقَالَ ابْنُ زَكَرِيَّا) الطَّبِيبُ (هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ الْأَلَمِ) بِدَفْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَرُدَّ بِأَنَّهُ قَدْ يُلْتَذُّ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ أَلَمٍ بِضِدِّهِ كَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَسْأَلَةِ عِلْمٍ أَوْ كَنْزِ مَالٍ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ خُطُورِهِمَا بِالْبَالِ وَأَلَمِ التَّشَوُّقِ إلَيْهِمَا (وَقِيلَ:) هِيَ (إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ) مِنْ حَيْثُ الْمُلَاءَمَةُ

ــ

[حاشية العطار]

أَكْثَرَ كَمَا أَنَّ الْعَاشِقَ إذَا رَأَى مَعْشُوقَهُ مِنْ مَسَافَةٍ أَقْرَبَ تَكُونُ لَذَّتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا رَآهُ مِنْ مَسَافَةٍ أَبْعَدَ وَأَمَّا بِتَفَاوُتِ الْمُدْرِكِ فَإِنَّ لَذَّةَ السَّمْعِ الصَّحِيحِ مِنْ الصَّوْتِ الْحَسَنِ أَشَدُّ مِنْ لَذَّةِ السَّمْعِ الْمَرِيضِ مِنْهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ هَذَا إلَى تَفَاوُتِ الْإِدْرَاكِ، وَأَمَّا بِتَفَاوُتِ الْمُدْرَكِ؛ فَلِأَنَّ الْمَعْشُوقَ الْمَنْظُورَ كُلَّمَا كَانَ أَحْسَنَ تَكُونُ اللَّذَّةُ فِي رُؤْيَتِهِ أَكْثَرَ وَلَا شَكَّ أَنَّ إدْرَاكَ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ أَقْوَى مِنْ الْإِدْرَاكَاتِ الْحِسِّيَّةِ.

لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ وَاصِلٌ إلَى كُنْهِ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ أَصْعُبُ الْمُدْرَكَاتِ حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ وَأَجْزَائِهَا ثُمَّ يُمَيِّزَ بَيْنَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَجِنْسِ الْجِنْسِ وَفَصْلِ الْجِنْسِ وَيُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَارِجِ اللَّازِمِ وَالْمُفَارِقِ وَبَيْنَ اللَّازِمِ بِوَسَطٍ وَبِغَيْرِ وَسَطٍ وَالْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ لَا يَصِلُ إلَّا إلَى الْمَحْسُوسِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ الْمُدْرَكَاتِ لِمُشَارَكَةِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ مَعَ الْإِنْسَانِ فِي ذَلِكَ الْإِدْرَاكِ فَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ أَقْوَى وَمُدْرَكَاتُهُ أَشْرَفُ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ الْحَقِّ وَصِفَاتُهُ وَتَرْتِيبُ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَمُدْرَكَاتُ الْحِسِّ لَيْسَتْ إلَّا أَعْرَاضًا مَخْصُوصَةً هِيَ الْأَلْوَانُ وَالطُّعُومُ أَوْ بَاقِي الْمَحْسُوسَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْمَعَانِي الْجُزْئِيَّةِ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنْ لَا نِسْبَةَ لِأَحَدِهِمَا فِي الشَّرَفِ مَعَ الْآخَرِ فَتَكُونُ اللَّذَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَشَدُّ مِنْ اللَّذَّةِ الْحِسِّيَّةِ وَأَقْوَى مِنْهَا ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الشَّارِحُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

وَأَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ اللَّذَّةَ الْعَقْلِيَّةَ هِيَ اللَّذَّةُ الْقُصْوَى شُبْهَةً وَتَقْرِيرُهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمَعْقُولَاتُ كَمَالَاتٍ لِلنَّفْسِ مُلْتَذَّةً بِإِدْرَاكِهَا لَوَجَبَ أَنْ يُشْتَاقَ إلَيْهَا وَيُتَأَلَّمَ بِحُضُورِ أَضْدَادِهَا كَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ فَإِنَّهَا تَشْتَاقُ إلَى الْأَصْوَاتِ الرَّخِيمَةِ الَّتِي هِيَ كَمَالٌ لَهَا وَتَتَأَلَّمُ بِوُصُولِ الْأَصْوَاتِ الْمُسْتَنْكَرَةِ إلَيْهَا وَدَفَعَهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِيَاقِ النَّفْسِ إلَى الْمَعْقُولَاتِ الصِّرْفَةِ وَالْمَيْلِ إلَيْهَا عَدَمُ كَوْنِهَا مُلْتَذَّةً بِهَا لِجَوَازِ أَنْ لَا تَكُونَ النَّفْسُ مُتَوَجِّهَةً إلَيْهَا بِسَبَبِ غِطَاءٍ مَانِعٍ هُوَ انْهِمَاكُهَا فِي اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ وَاشْتِغَالُهَا بِالْمَحْسُوسَاتِ الصِّرْفَةِ وَمَا لَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهَا لَمْ تَجِدْ ذَوْقًا مِنْهَا فَلَمْ يَحْصُلْ شَوْقٌ إلَيْهَا فَإِذَا أُزِيلَ ذَلِكَ الْغِطَاءُ الَّذِي هُوَ الْمَرَضُ عَنْ بَصِيرَتِهَا وَصَلَتْ إلَيْهَا وَالْتَذَّتْ بِهَا.

(قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ زَكَرِيَّا) اسْمُهُ مُحَمَّدٌ الطَّبِيبُ الرَّازِيّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ابْنِ سِينَا ذَكَرَ لَهُ تَرْجَمَةً وَاسِعَةً صَاحِبُ طَبَقَاتِ الْأَطِبَّاءِ وَعَدَّدَ لَهُ تَآلِيفَ كَثِيرَةً وَالْآنَ مَوْجُودٌ مِنْهَا بَعْضٌ بِدِيَارِنَا اطَّلَعْت عَلَيْهَا وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طَائِلَةٌ فِي الْعِلَاجِ بِخِلَافِ الشَّيْخِ ابْنِ سِينَا فَإِنَّمَا كَانَتْ مَهَارَتُهُ فِي الْعِلْمِ دُونَ الْعَمَلِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يُبَاشِرْ الْعَمَلَ كَثِيرًا كَبَاقِي الْأَطِبَّاءِ فَإِنَّهُ كَانَ مُخَالِطًا لِلدُّوَلِ وَمُتَقَلِّبًا فِي الْمَنَاصِبِ وَوَقَعَتْ لَهُ مِحَنٌ كَثِيرَةٌ وَلَاقَى شَدَائِدَ عَظِيمَةً حَتَّى إنَّ جُلَّ مُؤَلَّفَاتِهِ أَلَّفَهَا فِي الِاخْتِفَاءِ وَالتَّسَتُّرِ وَالتَّنَقُّلِ فِي الْأَسْفَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ الْأَلَمِ) عِبَارَةُ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ هَكَذَا وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا أَنَّ اللَّذَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّبَدُّلِ وَالْخُرُوجِ عَنْ حَالَةٍ غَيْرِ طَبِيعِيَّةٍ إلَى حَالَةٍ طَبِيعِيَّةٍ وَبِهِ صَرَّحَ جَالِينُوسُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَلَامِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْخَلَاصِ عَنْ الْأَلَمِ وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ لِلْجُوعِ وَالْجِمَاعِ لِدَغْدَغَةِ الْمَنِيِّ أَوْعِيَتَهُ وَأَبْطَلَهُ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ قَدْ تَحْصُلُ اللَّذَّةُ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ أَلَمٍ أَوْ حَالَةٍ غَيْرِ طَبِيعِيَّةٍ كَمَا فِي مُصَادَفَةِ مَالٍ وَمُطَالَعَةِ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَشَوْقٍ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ وَلَا عَلَى الْإِجْمَالِ بِأَنْ لَمْ يَخْطِرْ ذَلِكَ بِبَالِهِ قَطُّ لَا جُزْئِيًّا وَلَا كُلِّيًّا وَكَذَا فِي إدْرَاكِ الذَّائِقَةِ الْحَلَاوَةَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ التَّبَدُّلُ مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ كَمَا فِي حُصُولِ الصِّحَّةِ عَلَى التَّدْرِيجِ وَفِي وُرُودِ الْمُسْتَلَذَّاتِ مِنْ الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَصْوَاتِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى مَنْ لَهُ غَايَةُ الشَّوْقِ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ عَرَضَ لَهُ شَاغِلٌ عَنْ الشُّعُورِ وَالْإِدْرَاكِ اهـ.

(قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ الْمُلَاءَمَةُ) قَيَّدَ بِالْحَيْثِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ مُلَائِمًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>