للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذا تقرر هذا، فلا شك أنّ من اعتقد في ميت من الأموات، أو حي من الأحياء أنه يضره أو ينفعه إما استقلالا أو مع الله تعالى، أو ناداه أو توجه إليه، أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق، فلم يخلص التوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة؛ إذ الدعاء بطلب وصول الخير إليه ودفع الضر عنه، هو نوع من أنواع العبادة.

ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجرا أو ملكا أو شيطانا كما كان يفعل ذلك في الجاهلية، وبين أن يكون إنسانا من الأحياء أو الأموات كما يفعله الآن كثير من المسلمين، وكل عالم يعلم هذا ويقرّ به، فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله تعالى وتشريك غيره معه يكون للحيوان كما يكون للجماد، وللحي كما يكون للميت.

فمن زعم أن ثمّ فرقا بين من اعتقد في وثن من الأوثان أنه يضر أو ينفع، وبين من اعتقد في ميت من بني آدم أو حي منهم أنه يضر أو ينفع، أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فقد غلط غلطًا بينًا، وأقر على نفسه بجهل كثير، فإنّ الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه، ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكا بالصنم والوثن والإله لغير الله زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئا يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كانت تطلقه عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسما آخر، فلا اعتبار بالاسم قط، ومن لم يعرف هذا فهو جاهل لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به أهل العلم.

وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة والتقريب لها في بعض الحاجات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور، فإنهم قد عظّموها إلى حدٍ لا يكون إلا لله سبحانه، بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من يعتقده أو قريبًا منه مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو في مسجد من المساجد أو قريبا من ذلك، وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبا ولم يحلف بالميت الذي يعتقده.

وأما اعتقادهم أنها تضر وتنفع فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدعُ أحدٌ منهم ميتًا أو حيًا عند استجلابه لنفع، أو استدفاعه لضر، قائلاً: يا فلان افعل لي كذا وكذا، وعلى الله وعليك، وأنا بالله وبك" (١).


(١) الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد (ص: ٦٨ - ٧١) دار ابن خزيمة.

<<  <   >  >>