للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال أيضًا: "فإن قلت: إنّ هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار والنافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه.

قلت: وهكذا كانت الجاهلية، فإنهم يعلمون أن الله هو الضار النافع وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز.

نعم إذا لم يحصل من المسلم إلا مجرد التوسل الذي قدمنا تحقيقه فهو كما ذكرناه سابقاً، ولكن مَن زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين، وزاد على مجرّد الاعتقاد فتقرَّب إلى الأموات بالذبائح والنذور، وناداهم مستغيثا بهم عند الحاجة، فهذا كاذب في دعواه أنَّهُ متوسِّل فقط، فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من ذلك، والمتوسَّلُ به لا يحتاج إلى رشوة بنذر أو ذبح، ولا تعظيم ولا اعتقاد، لأنّ المدعو هو الله، وهو أيضا المجيب، ولا تأثير لمن وقع به التوسل قطُّ، بل هو بمنزلة العمل الصَّالح، فأيُّ جدوى في رشوة مَن قد صار تحت أطباق الثَّرى بشيء من ذلك، وهل هذا إلَاّ فعل من يعتقد التأثير اشتراكا أو استقلالا، ولا أعدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدَّعاوى الباطلة العاطلة، بل من زعم أنه لم يحصل منه إلَاّ مجرَّد التوسل وهو يقول بلسانه: يا فلان مناديا لمن يعتقده من الأموات، فهو كاذب على نفسه.

ومن أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالا، فليخبرنا ما معنى ما نسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن عجلان، يا زيلعي، يا ابن علوان، يا فلان يا فلان. وهل ينكر هذا منكر، ويشك فيه شاك؟ وما عدا ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم، ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم، حتى أنهم في حرم الله ينادون: يا ابن عباس، يا محجوب، فما ظنّك بغير ذلك؟! فلقد تلطف إبليس وجنوده أخزاهم الله تعالى لغالب أهل الملة الإسلامية بلطفة تزلزل الأقدام عن الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أين من يعقل معنى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ}.

وقد أخبرنا الله سبحانه أن الدعاء عبادة بمحكم كتابه بقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}. وأخرج أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء هو العبادة» ...

كذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أنّ النحر للنسك وإخراج صدقة المال والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف، ومن زعم أن ثَمّ فرقاً بين الأمرين فيهده إلينا.

ومن قال: إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر عليهم عبادتهم، فقل له: فلأي مقتضى صنعت هذا الصنيع؟ فإنّ دعاءك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبّر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم فأنت مصاب بعقلك" (١).

وقال أيضًا: "فإن قلت: إنّ المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون بها.


(١) المصدر السابق (ص:٧٢ - ٧٥).

<<  <   >  >>