للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلتُ: هؤلاء إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها بأفعالهم، فإنّ من استغاث بالأموات أو طلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، أو عظّمهم أو نذر عليهم بجزء من ماله أو نحر لهم فقد نزّلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذا الأفعال، فهو لم يعتقد معنى لا إله إلا الله ولا عمل بها، بل خالفها اعتقاداً وعملاً، فهو في قوله لا إله إلا الله كاذبٌ على نفسه، فإنه قد جعل إلهاً غير الله يعتقد أنه يضر وينفع، فَعَبَده بدعائه عند الشدائد والاستغاثة به عند الحاجة، وبخضوعه له وتعظيمه إياه، ونحر له النحائر، وقرب إليه نفائس الأموال. وليس مجرد قول لا إله إلا الله من دون عمل بمعناها مثبتاً للإسلام، فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية وعكف على صمنه يعبده لم يكن ذلك إسلاماً" (١).

وقال أيضًا: "فإن قلت: هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك، بل لو عُرض أحدهم على السيف لم يقرّ بأنه مشرك بالله ولا فاعل لما هو شرك، بل ولو علم أدنى علم أن ذلك شرك لم يفعله.

قلت: الأمر كما قلت، ولكن لا يخفى عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا يعتبر في ثبوتها العلم بمعنى ما قاله مَن جاء بلفظ كفري أو فعل فعلا كفريا.

وعلى كل حال، فالواجب على كل من اطلع على شيء من هذه الأقوال والأفعال التي اتصف بها المعتقدون في الأموات أن يبلِّغهم الحجة الشرعية، ويبين لهم ما أمره الله بيانه وأخذ عليه الميثاق ألا يكتمه كما حكى ذلك لنا في كتابه العزيز فيقول لمن صار يدعو الأموات عند الحاجات، ويستغيث بهم عند حلول المصيبات، وينذر لهم النذور وينحر لهم النحور، ويعظمهم تعظيم الرب سبحانه: إن هذا الذي يفعلونه هو الشرك الذي كانت عليه الجاهلية، وهو الذي بعث الله رسوله بهدمه، وأنزل كتبه في ذمّه، وأخذ على النبيين أن يبلغوا عباده أنهم لا يؤمنون حتى يخلصوا له التوحيد ويعبدوه وحده، فإذا علموا بهذا علما لا يبقى معه شك ولا شبهة، ثم أصروا على ما هم فيه من الطغيان والكفر بالرحمن وجب عليه أن يخبرهم بأنهم إذا لم يقلعوا عن هذه الغواية، ويعودوا إلى ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهداية، فقد حلت دماؤهم وأموالهم، فإن رجعوا وإلا فالسيف هو الحكم العدل كما نطق به الكتاب المبين وسنة سيد المرسلين في إخوانهم المشركين" (٢).

وقال أيضًا: "بل هؤلاء القبوريون قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، وإنما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشدائد من الأمور كما حكاه الله عنهم بقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ لإِنسَانُ كَفُوراً} وبقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وبقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} وبقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.


(١) المصدر السابق (ص: ٧٧).
(٢) المصدر السابق (ص: ٨٢ - ٨٣).

<<  <   >  >>