ينقض قولته الأولى لم يسعه بعد الصراع النفسي العنيف وتكلف الخروج عن فطرته العربية وملكته الأدبية إلا أن يقول: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) ولكي تتأكد أن الرجل لم يقل ذلك إلا مكرها أقرأ عليك قول الله: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤)[المدثر: ١٨ - ٢٥]. فانظر كيف صور القرآن حالته النفسية هذا التصوير المعجز الذي يصور لك الوليد وقد بدت على وجهه آثار الصراع النفسي العميق العنيف ما بين فطرته اللغوية التي تأبى عليه أن يقول في القرآن غير ما قال، وما بين رغبته في إرضاء قومه التي تلح عليه أن يقول في القرآن ما يرضيهم ويبقي على مودتهم له، فلم يستطع إلا أن يقول: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)!!! وآثر أن يناقض نفسه على أن يغضب قومه!!
ولقد كان البليغ منهم- على كفره- يسمع القرآن فيخيل إليه أن العذاب كأنه واقع بهم فلا يجد مندوحة عن أن يناشد النبي صلى الله عليه وسلم الله والرحم أن يكف عن قراءاته، وكان القرشيون يتواصون فيما بينهم أن لا يستمعوا إليه وأن يضعوا أصابعهم في آذانهم، ويستغشوا ثيابهم، حذرا أن ينفذ إلى قلوبهم فإذا هم بعد قليل تغلب
عليهم فطرتهم اللغوية فيتناسون الوصية ويلقون إليه بآذانهم وقلوبهم لما يجدون في استماعه من لذة وإرضاء لملكاتهم الأدبية (١).
[مميزات القسم المدني]
١ - التحدث عن التشريعات التفصيلية والأحكام العملية في العبادات والمعاملات كأحكام الصلاة، والصيام، والزكاة، والقصاص، والنكاح، والطلاق، والبيوع والمداينات، والربا، والحدود كحد الزنا، والسرقة، والكفارات؛ ككفارة القتل الخطأ والظهار، والأيمان، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه السور المدنية كما في سورة البقرة والنساء والمائدة والنور؛ وذلك لأن حياة المسلمين في المدينة بدأت في الاستقرار
(١) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ج ١ ص ٣٢٢ - ٣٢٣.