كان التجارة لا تلقي العلوم والمعارف من أهل الكتاب، وعلى كثرة تكرار الرحلتين لم نجد أحدا من أهل مكة صار يهوديّا أو نصرانيّا، ومن تنصر في غير مكة إنما هم قلة لا تكاد تذكر، فكيف يتأثر النبي بقوم في شيء هم أجهل الناس به
[(رد المقدمة السادسة)]
وأما ما زعموه من أن خلوة النبي وتعبده في حراء وتأمله في الكون علويّه وسفليه، وأنه بتعبده وتفكره خيل إليه أنه النبي المنتظر، وأنه قد تمكن منه هذا التخيل حتى تراءى له أنه يوحى إليه، وأن الملك يلقنه- فدعاوى باطلة، ومقدمة لا تؤدي إلى ما يريدون من نتيجة، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعبد ما كان يدور بخلده أنه نبي هذه الأمة المبعوث في آخر الزمان، وليس أدل على هذا من قول الحق تبارك وتعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [سورة القصص: ٨٦].
فهي صريحة في أن النبي ما كان يؤمّل ذلك، ولكن ألقى الله إليه بالكتاب رحمة من الله به، وبالناس كلهم، لا كسب له فيه بعلم، ولا عمل ولا رجاء ولا أمل، والنبوة ليست بالتمني ولا بالرياضات الروحية، ولو كانت تنال بذلك لنالها أمية بن أبي الصلت، وأمثاله ممن ترهبوا وتنسكوا، وجاهدوا في سبيل الوصول إليها، وأيضا فغاية التعبد والتفكر في الكون أن يصلا بصاحبه إلى الإيمان بوجود إله خالق مدبر قيوم عالم قادر أما أنهما يؤديان إلى كل هذه العقائد والتشريعات المتنوعة، والآداب والتوجيهات التي لم تكن تخطر على بال إنسان، فهذا أمر غير معهود في سنة الكون ومجرى العادة.
وبعد هذا المطاف تبين لك أيها القارئ الحصيف أن المقدمات التي أرادوا أن يرتبوا عليها فكرة الوحي النفسي مقدمات فاسدة غير مسلمة ودعاوى باطلة، لا حقائق تاريخية ثابتة، وإذا بطلت المقدمات، بطل لزوم النتيجة لها ببداهة العقل، وما مثلهم إلا كمثل من أراد أن يبني بيتا من خيوط العنكبوت: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [سورة العنكبوت: ٤١].