ومن ذا الذي يسمع من نبيه الأكرم هذا الحديث- وأمثاله كثير- ثم لا يحفظه عن ظهر قلب، ولا يفني عمره فيه؛ إن هذا الكتاب العظيم أحق ما يفنى فيه الشباب، وأجدر ما تنفق فيه الأعمار فلا تعجب إذا كان المسلمون حفظوه غاية الحفظ، وفهموه غاية الفهم، وتدبروه غاية التدبر، وهذا هو ما كان، وهذا هو ما شهد به تاريخ الأجيال، وارجع إلى كتاب التواريخ والرجال والطبقات تقف على ما يقنع العقل، ويثلج الصدر، ويطمئن القلب.
[العامل الثامن إعجاز القرآن، وسحر بيانه، وعجائب أسلوبه، وحلاوة كلامه]
وهذه خصائص للقرآن الكريم، وقد كانت من أعظم العوامل وأقوى الدوافع إلى حفظ القرآن الكريم.
والعرب كانوا أرباب الفصاحة، والبلاغة وفرسان البيان، فمن ثم كانت معجزة النبي العظمى القرآن الكريم، وكان العربي تستهويه الكلمة الفصيحة، ويكاد يخر ساجدا للكلام البليغ، ويملك ناصيته البيان المعجز، والأساليب العجيبة، ويجد في الكلام الفصيح البليغ حلاوة ليس بعدها حلاوة؛ لأن فيه إشباعا لغريزته، وإرضاء لفطرته، وتنمية لمواهبه.
وإليك ما ذكره ابن إسحاق في سيرته عن ثلاثة من فصحاء العرب وبلغائهم؛ روى عن الزهري قال: حدثت أن أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا، فيستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فجمعهم الطريق، فتلاوموا!! وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا ..