وآدابها بحظ وافر، أما من قرأ القرآن قراءة باحث مستبصر غير ذي هوى ورزق التبحر في اللغة، والوقوف على أسرار البلاغة فإنه يصل ولا محالة إلى علم اليقين في هذا؛ وهو أن القرآن كعقد منظم تناسقت حباته، وتآلفت لآلئه، ونظم في سلك من الذهب الخالص، والقرآن كله- مكيه ومدنيه- معانيه متآلفة، وأفكاره منسجمة وآياته متآخية آخذ بعضها بحجز بعض، لا تنقطع آية عن سابقتها ولاحقتها، لا ينفر معنى من آخر، ولو أن هذا الناقد تناول بعض السور المكية وبين لنا بطريقة فنية ما فيها من اقتضاب وتفكك لبينا له ما فيها من ترابط وتماسك، ولظهر وجه الحق لذي عينين، أما وقد أرسلها قولة مجردة فهي لا تخرج عن كونها دعوى عارية عن البرهان.
وقد عني العلماء المحققون في القديم والحديث ببحث المناسبات بين الآي والسور وأتوا في ذلك بالعجب العجاب، وقد اشتملت بعض كتب التفسير وكتب البلاغة وأسرارها في ذلك على شيء كثير، وألف بعضهم في ذلك كتبا مستقلة كما فعل البقاعي في كتابه «لقط الدرر في تناسب الآي والسور» والسيوطي في كتابه «أسرار التنزيل» وبحسبنا هذا الإجمال الآن، وعسى أن تكون لنا عودة للبحث التفصيلي في موضعه إن شاء الله.
٢ - أن طول الكلام وقصره تابع لمقتضى الحال الذي هو عماد البلاغة العربية، وليس تابعا للبيئة ولا الوسط، وقد بينت آنفا السر في سلوك القرآن الكريم العبارات القصيرة حينا والطويلة حينا آخر، فكن على ذكر منه.
٣ - القرآن الكريم قد تحدى العرب قاطبة في بعض السور المدنية كما تحداهم في السور المكية، وقد جاء التحدي في المدينة بسورة مهما قصرت وأما في مكة فقد وقع التحدي بالقرآن كله ثم بعشر سور منه ثم بسورة واحدة أية سورة، فلو أن أهل المدينة- كما زعم الناقد- كانوا أقدر على إنشاء العبارات الطويلة من أهل مكة، وأن القرآن كان متأثرا بهم في الإطالة لكانوا أقدر على معارضته والإتيان ولو بأقصر سورة منه، ولكنهم