وأيضا فالقرآن على نزوله مفرقا، وتباعد ما بين أزمان النزول يكوّن سلسلة ذهبية مترابطة الحلقات متآخية الفقرات، منسجمة الشكل؛ لا تنبو كلمة عن كلمة، ولا تنفر آية من آية، بل كله في غاية الفصاحة والبلاغة والإحكام، ولا يسمو بأسلوبه في بعض الآيات وينزل في البعض الآخر، ولا تنبل الغاية والمقصد في بعض الآيات، وتسف في البعض الآخر مما يدل أعظم الدلالة على أنه ليس من عند بشر.
ولو أنك نظرت في مؤلفات أديب من الأدباء، مهما بلغ، فإنك- لا شك- واجد تفاوتا بيّنا بين ما ألفه في أول حياته، وما ألفه في آخر حياته سواء أكان في لفظه ومعانيه، أم في أغراضه ومراميه، أم في أسلوبه وتفكيره.
وإذا كان القرآن لم يأت على غرار ما يصنع البشر، فقد تعين أن يكون من عند الله خالق القوى والقدر.
هذا .. وليست هذه نهاية الحكم، فهناك لمن أحكم النظر، وأجال البصر حكم وحكم.
تتمّة: الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها، أن القرآن كان ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الحاجة: خمس آيات، وعشر آيات، وأكثر أو أقل.
وقد صح نزول العشر الآيات في قصة «الإفك» جملة، وصح نزول عشر آيات من أول سورة «المؤمنون» جملة، وصح نزول: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وحدها، في قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ... [سورة النساء: ٩٥] الآية، وكذلك قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة: ٢٨] نزل بعد أن نزل أول الآية، كما حرره الإمام «السيوطي» في «أسباب النزول» وقد ورد في بعض الآثار نزول بعض السور