للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شرح حديث: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين قالوا: حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: (كنت وافد بني المنتفق أو في وفد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نصادفه في منزله، وصادفنا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قال: فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا، قال: وأتينا بقناع - ولم يقل قتيبة القناع - والقناع: الطبق فيه تمر، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل أصبتم شيئاً أو أمر لكم بشيء؟ قال: قلنا: نعم يا رسول الله، قال: فبينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة تيعر، فقال: ما ولدت يا فلان؟ قال: بهمة، قال: فاذبح لنا مكانها شاة، ثم قال: لا تحسِبن - ولم يقل لا تحسَبن - أنا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة قال: قلت: يا رسول الله! إن لي امرأة وإن في لسانها شيئاً -يعني: البذاء-، قال: فطلقها إذاً، قال: قلت: يا رسول الله! إن لها صحبة ولي منها ولد، قال: فمرها - يقول عظها -، فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك كضربك أميتك.

فقلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)].

هذا الحديث رواه أحمد وأهل السنن ولا بأس بسنده، وهو حديث فيه فوائد وأحكام، والشاهد من الحديث قوله: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) إذ فيه دليل على مشروعية الاستنشاق ووجوبه.

وفيه: أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق.

وفيه دليل على أن الأنف منفذ بخلاف العين والأذن، فإذا قطر الصائم في العين أو الأذن فلا يفطر على الصحيح كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ولو وجد طعماً في حلقه؛ لأن العين والأذن ليستا منفذين، لكن إذا قضى من باب الاحتياط وخروجاً من الخلاف فحسن، وأما الأنف فإنه منفذ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فدل على أن الأنف منفذ مثل الفم، فإذا استعط -أي: جعل السعوط في أنفه- ووصل إلى حلقه فإنه يفطر؛ لأن الأنف منفذ.

والحديث فيه فوائد أخرى منها: مشروعية إكرام الضيف، وأن الضيف إذا جاء ورب الدار ليس موجوداً فإن من في البيت من زوجة وخادم يقوم بواجب الضيافة؛ ولهذا قدمت عائشة رضي الله عنها لهم واجب الضيافة قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قدمت لهم خزيرة، والخزيرة بالخاء العصيدة فيها قطعة من اللحم، فإن لم يكن فيها لحم سميت حزيرة بالحاء.

وفيه: عدم التكلف للضيف؛ حتى لا يكون ذلك سبباً في نفرة الضيف، ولهذا فإنهم قدموا لهم ما تيسر وذبحوا لهم، وقال لهم: لا تحسبن أنا ذبحناها من أجلكم، بل عندما مائة لا نحب أن تزيد، فإذا ولد الراعي واحدة ذبحنا مكانها فلا نتكلف، فإذا لم يتكلف للضيف صار هذا سبباً في مجيء الضيوف، وأما إذا تكلف صار هذا سبباً في بعد الضيوف وعدم مجيئهم؛ خوفاً من التكلف.

قوله: (إن لي امرأة بذيئة اللسان، قال: طلقها إذاً، قال: ولي منها ولد، فأمره أن يعظها)، وهنا ينظر في المصلحة، فإن كانت الزوجة بذيئة اللسان وليس له منها ولد ورأى المصلحة في تطليقها طلقها، وإن كان له ولد فإنه ينظر ويتأمل ويعظها ولا يعجل.

وقوله: (فلم نصادفه) فيه دليل على جواز قول الإنسان لأخيه: لقيت فلاناً صدفة؛ لأن المقصود صدفة بالنسبة لي ولك، وأما بالنسبة لله عز وجل فلا يقال هذا، فالله تعالى علم الأشياء وكتبها في اللوح المحفوظ، فمن قال -بالنسبة لله-: إنه صدفة فقد كفر وارتد؛ لأنه نسب الله للجهل وأنكر القدر، لكن قوله: لقيت فلاناً صدفة يعني بالنسبة لي أنا وهو، فهي صدفة، يعني: من غير ميعاد، ولهذا قال: فلم نصادفه، وصادفنا عائشة.

وقوله: (فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا) فيه عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالضيف، وكرم عائشة رضي الله عنها، ونبل أخلاقها.

وقوله: (وأوتينا بقناع قال: -ولم قتيبة القناع- والقناع: الطبق فيه تمر ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم).

يعني: قدمت لهم خزيرة وهي عصيدة، وقدمت لهم طبقاً من تمر، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم وسأل أيضاً -وهذا من عنايته بالضيف- هل أمر لكم بشيء؟ فقالوا: نعم، يعني: هل أمر لكم بحق الضيافة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أصبتم شيئاً أو أمر لكم بشيء؟ قال: قلنا: نعم يا رسول الله! قال: فبينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة تيعر).

تيعر أي: تصيح، وصوت الغنم يقال له: تيعر، والبقر يقال له: خوار، والإبل له: رغاء، كما في حديث الغلول من الغنيمة: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر).

وقوله: (فقال: ما ولدت يا فلان؟! قال: بهمة، قال: فاذبح لنا مكانها شاة، ثم قال: لا تحسِبن - ولم يقل لا تحسَبن - أنا من أجلك ذبحناها).

قوله: (لا تحسبن) بكسر السين كأنها لغة، قال النووي في شرحه: مراد الراوي أنه صلى الله عليه وسلم نطق هاهنا مكسورة السين ولم ينطق بها بفتحها، فلا يظن الظان أني رويتها بالمعنى على اللغة الأخرى، أو شككت فيها، أو غلطت أو نحو ذلك، بل أنا متيقن بنطقه صلى الله عليه وسلم بالكسر وعدم نطقه بالفتح.

وهي بالكسر لغة من اللغات، وقد تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم كما تكلم ببعض لغات أهل اليمن فقال: ليس من أمبر امصيام في امسفر والمعنى: ليس من البر الصيام في السفر.

وقوله: (قال: لا تحسبن - ولم يقل: لا تحسبن - أنا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة، قال: قلت: يا رسول الله! إن لي امرأة وإن في لسانها شيئاً يعني: البذاء، قال: فطلقها إذاً، قال: قلت: يا رسول الله! إن لها صحبة ولي منها ولد، قال: فمرها - يقول: عظها -، إن يكن فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك كضربك أميتك).

قوله: (ظعينتك) يعني: زوجتك، وأصل الظعينة المرأة تكون في الهودج على البعير، وكان يطلق على الهودج اسم ضعينة، ثم اطلق على المرأة.

وقوله: (لا تضرب ظعينتك كضربك أميتك) أميتك: تصغير أمة، يعني: لا تضرب الزوجة مثل ضرب الأمة والخادم، فهذه لا تباع وتشترى، فإن الأمة تضرب وتتأدب، وأما الزوجة فلا، لأن الضرب قد يؤذيها، وقد يسيء العشرة، والواجب أن يعمل مع المرأة كما قال الله عز وجل، فأولاً: يعظها إذا خاف النشوز، ثم يهجرها في المضجع، ثم يضربها ضرباً غير مبرح، فآخر الطب الكي، والضرب آخر شيء، قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:٣٤]، ولكن الضرب يكون ضرب تأديب، فلا يكسر عظماً، ولا يجرح جسداً، بل يكون كضرب الصبي الصغير الذي لم يبلغ، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) أي: ضرب تأديب.

وقوله: (فقلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء، قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).

فيه: إسباغ الوضوء، وهو إكماله وإبلاغه.

وفيه: مشروعية التخليل بين الأصابع؛ لأنه قد ينبو عنه الماء.

فإن قيل: يستلزم من إكرام عائشة للضيف في غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخلوة معها.

قلنا: لا يستلزم ذلك، بل هو محمول على أنه كان أكثر من ضيف، أو أن عند عائشة خدم في البيت فلا تكون الخلوة.

والمراد بالأمة والخادمة في الحديث: التي تباع وتشترى، إذ كان هذا هو المعروف عندهم، فالخدم سابقاً كانوا يؤخذون من أرض الجهاد، كان المسلمون يقاتلون الأعداء ويجاهدون ويسترقون، فيصير هناك رق بسبب الجهاد، وأما الخادمة في زمننا فهي مستأجرة وليست خادمة، ويقال لها: خادم، وخادم أفصح من خادمة، يقال للذكر والأنثى، وكذلك الزوج أفصح من الزوجة.

<<  <  ج: ص:  >  >>