للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح حديث المغيرة في مسح رسول الله على خفيه]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب المسح على الخفين.

حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني عباد بن زياد أن عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره أنه سمع المغيرة رضي الله عنه يقول: (عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم فتبرز، ثم جاء فسكبت على يده من الإداوة فغسل كفيه، ثم غسل وجهه، ثم حسر عن ذراعيه فضاق كُمَّا جبته فأدخل يديه فأخرجهما من تحت الجبة، فغسلهما إلى المرفق، ومسح برأسه، ثم توضأ على خفيه ثم ركب)].

يعني: توضأ وعليه خفان ولم يخلعهما، قال صاحب عون المعبود: أي: مسح على خفيه كما في عامة الروايات.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في الصلاة قد قدموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم حين كان وقت الصلاة، ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، ففزع المسلمون فأكثروا التسبيح؛ لأنهم سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: قد أصبتم أو قد أحسنتم)].

هذا الحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله، والترمذي والنسائي.

وفيه: أنه مسح على خفيه، ولم يقل: توضأ على خفيه، وليس فيه أنه سبح الناس.

والحديث فيه فوائد كثيرة أهمها: مشروعية المسح على الخفين، وأن المسح على الخفين سنة، وفيه: الرد على الرافضة الذين يمنعون المسح على الخفين، فإن الرافضة لا يرون المسح على الخفين، بل يجب عندهم خلع الخفين ومسح ظهور القدمين، وإذا كانت الرجلان مكشوفتين فإنه يمسح ظاهر القدمين كما يمسح الرأس، فيبل يده ويمسح القدمين، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الأحاديث متواترة، والصحابة الذين رووا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وغسله ومسحه أكثر عدداً من الذين نقلوا نص الآية وهي آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:٦]، فالأحاديث متواترة في ذلك.

قال الإمام أحمد: رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعون صحابياً.

ومع ذلك أنكرت الرافضة هذه السنة المتواترة، ولهذا يذكرها العلماء في كتب العقائد، فيقولون: ونرى المسح على الخفين، ويقصدون من هذا الرد على الرافضة الذين أصبحت مسألة منع المسح على الخفين عقيدة عندهم، وإلا فإن المسح على الخفين مسألة فرعية تذكر في كتب الفروع، لكن يذكرها العلماء في كتب العقائد من أجل الرد على الرافضة الذين صارت لهم عقيدة، فهم يعتقدون أنه لا يجوز المسح على الخفين، وأنه يجب خلعهما ومسح ظهور القدمين، يعني: يجب مسح ظهور القدمين على كل حال، فإن كانت الرجلان مكشوفتين مسحوا ظهور القدمين، وإن كانت الرجلان فيهما خفان وجب خلع الخفين ومسح ظهور القدمين، هكذا عند الرافضة، والرافضة فرقة ضالة، نسأل الله السلامة والعافية.

والحديث فيه من الفوائد أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر ليس رباً ولا إلهاً، فيصيبه ما يصيب البشر، ويأكل ويشرب، ويبول ويتغوط، ولهذا ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته يتبرز، وليس هو نوراً كما يقول بعض الناس، بل هو لحم ودم، مخلوق من ذكر وأنثى، فاسم أبيه عبد الله، واسم أمه آمنة بنت وهب، خلافاً للغلاة الذين غالوا فيه وعبدوه وجعلوه إلهاً، حتى قال بعضهم: إنه خلق من نور! وفيه جواز الإعانة في الوضوء، فلا بأس أن يعينك أحد في الوضوء فيصب عليك وأنت تتوضأ.

والإعانة في الوضوء على حالتين: الحالة الأولى: أن يأتي غيرك ويصب عليك الماء، وهذا لا بأس به.

الحالة الثانية: أن يأتي غيرك فيغسل الأعضاء، وهذا سائغ في حالة ما إذا كان الإنسان مريضاً، فلا بأس بأن ينوي هو ويأتي إنسان صحيح ويغسل وجهه إلخ، فالنية من المريض، والغسل من الصحيح، فيغسل يده ووجهه ورجليه.

وفي الحديث من الفوائد أن الإمام إذا تأخر فإن الناس يقدمون أحدهم يصلي بهم ولا يعطلون الجماعة، ولهذا لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته قدم الصحابة عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم صلاة الفجر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة وقد صلى عبد الرحمن ركعة، فصف هو والمغيرة خلف عبد الرحمن بن عوف ولم ينكر عليهم.

وفيه أن الإمام إذا تأخر لا ينبغي أن يشق على الناس أو أن يشدد على الناس بأن يأمرهم بإعادة الصلاة ونحو ذلك، وجاء في قصة أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب يصلح بين بني عوف، فجاء بلال إلى أبي بكر ليصلي بالناس وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حبس، أي: تأخر في بني عوف، فقال: نعم إن شئت.

فتقدم، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يشق الصفوف، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قصة عبد الرحمن لم يتقدم؛ لأن أبا بكر لم يصل ركعة، وعبد الرحمن كان قد صلى ركعة، فدل ذلك على أن الإمام بالخيار، فإن شاء تقدم إلى المحراب، وإن شاء صلى مع الناس، لكن الأولى إذا كان الإمام في أول صلاته أن يتقدم، وإن فاته شيء من الصلاة فالأولى ألا يتقدم؛ حتى لا يشوش على الناس، وإن تقدم فلا حرج، وحينئذٍ يصلي بهم، ثم ينتظرونه حتى يأتي بالركعة التي فاتته، ثم يسلم بهم.

وفيه -أيضاً- من الفوائد أن الاثنين إذا جاءا فصليا مع الإمام وقد فاتهما شيء من الصلاة فإن كل واحد منهما يقضي لنفسه ولا يقتدي أحدهما بالآخر، ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم يقضي الركعة التي فاتته هو والمغيرة، ولم يقتد المغيرة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وإن اقتدى به فلا حرج، لكن الأولى ألا يقتدي أحدهما بالآخر.

وفيه -أيضاً- من الفوائد جواز لبس الضيق من الثياب كالضيقة الكمين، ولهذا لما أراد أن يغسل يديه ضاق عليه كم الجبة، فأخذها من تحتها، فدل على أنه لا بأس بأن يلبس الضيق، وفيه دليل على جواز لبس الثياب التي أتت من الكفار؛ لأن هذه جبة شامية من بلاد الروم، فلا بأس أن يلبس الإنسان الثياب التي جاءت من الكفار، فالأصل فيها الحل والطهارة.

وفيه دليل على اشتراط الطهارة في لبس الخفين؛ إذ جاء في اللفظ الآخر أن المغيرة: قال (فأهويت لأنزع الخفين، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، ثم مسح عليهما) ففيه دليل على اشتراط الطهارة للمسح على الخفين، وأنه لابد من الطهارة، فإن لبسهما على غير طهارة فلابد من نزعهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>