[شرح حديث: (سئل رسول الله عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: توضئوا منها)]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: الوضوء من لحوم الإبل.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: توضأوا منها.
وسئل عن لحوم الغنم، فقال: لا توضئوا منها.
وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين.
وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: صلوا فيها؛ فإنها بركة)].
هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد وابن خزيمة.
وهذا الباب معقود للوضوء من أكل لحوم الإبل، وفيه حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن الوضوء من لحم الإبل، فقال: توضئوا من لحوم الإبل.
وسئل عن الوضوء من لحوم الغنم؟ فقال: لا تتوضئوا من لحوم الغنم).
وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (توضئوا من لحوم الإبل ولا تتوضئوا من لحوم الغنم)، وهما حديثان صحيحان كما قال الإمام أحمد رحمه الله.
ولهذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله وجماعة من أهل الحديث إلى وجوب الوضوء من أكل لحوم الإبل، وقد ذهب إلى هذا ابن خزيمة رحمه الله، وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث، وذهب الجمهور والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبي حنيفة إلى أنه لا يجب الوضوء من أكل لحوم الإبل.
واستدلوا بحديث جابر: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار)، ولكن حديث جابر رضي الله عنه هذا عام، وحديث البراء خاص، والقاعدة عند أهل العلم: أن الخاص يقدم على العام.
ولهذا عدل الإمام ابن القيم رحمه الله عن الاحتجاج بحديث جابر على عدم وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل، وقال: إن هذا عام وهذا خاص، وكانوا في أول الإسلام يتوضئون من أكل كل شيء مسته النار: إذا شرب مرقاً مسته النار، أو أكل سويقاً أو طعاماً توضأ، ثم نسخ ذلك أو بقي على الاستحباب، وأما لحوم الإبل ففيها دليل خاص، ولأن الوضوء من أكل لحوم الإبل عام يشمل النيئ والمطبوخ والمشوي بخلاف عدم الوضوء مما مسته النار.
ولهذا قال النووي رحمه الله: إن القول بالوضوء من أكل لحم الإبل أصح دليلاً، وإن كان الجمهور على خلافه.
وقال: ليس عندي إشكال في حديث جابر بن سمرة: (توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضأوا من لحوم الغنم)، وحديث البراء: (أنه لما سئل أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، وقيل: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا)، فالوضوء من أكل لحوم الغنم عام يدخل فيه حديث جابر: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار).
واختلف العلماء كما سيأتي في الوضوء مما مست النار هل هو منسوخ أو بقي على الاستحباب؟ والراجح: أنه بقي الاستحباب.
ودل حديث جابر أيضاً على النهي عن الصلاة في مبارك الإبل، وأنها لا تصح الصلاة؛ لأن النهي للفساد.
والعلة في النهي أنها مأوى للشياطين، وهو المكان الذي تقيم فيه عند المراح، وتقيم فيه المدة الطويلة، وأما المكان العارض الذي يكون فيه البعير ثم يذهب فهذا لا يعتبر مبركاً؛ لأن المبرك: هو المكان الذي يطيل فيه الجلوس، ويكون فيه المراح.
وأما مكان الغنم فلا بأس بالصلاة فيه.
وفيه دليل على طهارة أبوال ما يؤكل لحمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة في مبارك الغم، ولا تخلو مباركها من البعر والبول، لكنها طاهرة في أصح أقوال العلماء، فجميع ما يؤكل لحمه طاهر حتى الفضلات كالأرواث والأبوال.
وذهب الشافعية إلى أن أبوال ما يؤكل لحمه نجسة.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن جميع الأبوال طاهرة ما عدا بول الآدمي وعذرته، والصواب: القول الأول، وهو الذي تجرى عليه النصوص، فأما ما يؤكل لحمه فروثه ومنيه طاهر، وأما ما لا يؤكل لحمه كالأسد والنمر والكلب والثعلب وغيرها، ففضلاتها نجسة؛ لأنها ليست طاهرة كالآدمي، أما ما يؤكل لحمه فإنه طاهر حتى فضلاته خلافاً للشافعية الذين يقولون: إن أبوال الإبل والبقر والغنم نجسة، واستدلوا بالأحاديث التي فيها العموم في النهي عن البول ووجوب تنقية البول، لكن يقال: هذه عامة وهذه خاصة، والدليل على طهارة أبوال الإبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين لما اجتووا المدينة أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من أبوالها وألبانها، ولم يقل لهم: اغسلوا أفواهكم فإنها نجسة، ففعلوا وشربوا من أبوالها وألبانها حتى صحوا، فلو كانت نجسة لأمرهم أن يغسلوا أفواههم، وهذا ثابت في الصحيحين، وهذا هو الصواب الذي لا إشكال فيه: أن بول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه وجميع فضلاته طاهرة، وأما ما لا يؤكل لحمه فهو نجس من الحيوانات ومن الآدمي.
ومن الأدلة على طهارتها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الصلاة في مبارك الغنم، ومن المعلوم أن مبارك الغنم لابد فيها من الروث والبول، ولم يقل: توقوا أو افرشوا شيئاً حائلاً بينكم وبين الأرض، مما دل على أنها طاهرة.
هذا في مبارك الإبل والغنم الباقية على حالها، وأما إذا كانت مبارك الإبل مهجورة حيث نقلت الإبل إلى موقع آخر فالأقرب والله أعلم أنه انتقل حكمها، كما لو نقل المسجد إلى مكان آخر فإن حكم المسجد ينتقل، والعلة كما بين النبي أنها من الشياطين؛ لما فيها من الشيطنة والعتو والتمرد، وقد تأتي إلى الإنسان وهو يصلي وتؤذيه مثلاً، فالبعير إذا اعتاد على مكان فإنه لا يغير مكانه، ولهذا نهي المصلون عن الإيطان كإيطان البعير، كأن يصلي في مكان ولا يغيره.
فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في مبارك الإبل، والنهي يقتضي الفساد، وهي من إحدى الأماكن التي تمنع الصلاة فيها، وهي: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، ومبارك الإبل.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره الحكمة في الوضوء من لحم الإبل، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه من الشياطين، والشيطان مخلوق من نار، والنار تطفأ بالماء، فلهذا وجب الوضوء من أكل لحم الإبل.
وعلى كل حال فهذا استنباطه وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل، ونهى عن الصلاة في مبارك الإبل وقال: إنها من الشياطين.
أو هي من الشيطنة، وسواء كانت هذه هي الحكمة أو غيرها، فنحن عبيد مأمورون بأن نقول: سمعنا وأطعنا إذا أمر الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بشيء أو نهانا عن شيء.