للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وانقطاعه عن الناس في بيته بالروضة كان في مرتين أولاهما لم تدم أكثر من بضعة أشهر كتب فيها مقامته اللؤلؤية التي تسمى أيضا «التنفيس في الاعتذار عن ترك الفتيا والتدريس». واعتزاله الثاني واعتكافه كان بعد عز له عن مشيخة البيبرسية في عام ٩٠٦ هـ، وقد صمم في هذه المرة على عزلته وانقطاعه حتى وفاته عام ٩١١ هـ.

على أن المقامة التي كتبها في الاعتذار عن الافتاء والتدريس تطلعنا على الآلام التي كان يعانيها من معاصريه والأذى الذي تعرض له من بعض من يكيدون له، كما تبين لنا حالة الفساد التي ظهرت بالبيئات العلمية وجعلت الرجل يفكر في اعتزالها، وفي هذه المقامة يعتذر السيوطي إلى أصدقائه عن تركه الحياة العامة فيذكر كثيرا من الأعذار مجملها أن الزمان قد فسد وظهر به من العلامات «ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلزم العالم عندها خاصة نفسه، ويجلس في بيته ويسكت ويدع أمر الحياة من ذلك الشح المطاع، ودنيا مؤثرة، وهوى له ذو أتباع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وذلك عين الابتداع، وقد مزجت الأمانات والعهود، وكثر القائلون بالزور والشهود ... الخ» «١».

ويتضح من حديث السيوطي كثير من أوجه الفساد التي عانى منها عصره والتي تطرقت إلى الحياة العلمية، كما يدافع عن نفسه ويروى أن كثيرا من علماء السلف المعروفين قد اعتزلوا الحياة العامة حين شاهدوا فسادها، ويتحدث عن اعتزاله للتدريس فيذكر أن تلامذته طبقات ثلاث: أولاها كان فيها خير، والثانية كان بها خير وشر، والثالثة كانت شرا كلها وساء حالها، وهو يحاول بذلك تصوير استشراء الفساد شيئا فشيئا.

ويذكر السيوطي أن فتاواه قد ملأت الأرض وأنه أهل للفتيا وقد انتفع الناس بعلمه، ويبدو من أسلوبه العنيف في آخر رسالته مدى العداء الذي كان يناصبه أعداؤه، فهو يهاجمهم هجوما لا هوادة فيه إذ يصف نفسه وما يبذله من الجهد في العلم وما يأتي به من أمور يعجز غيره عنها ثم ينظر فيجد نفسه بعد ذلك «بين


(١) المقامة اللؤلؤية ص ١ (مخطوط بدار الكتب برقم ٢١١٧٤ ب).

<<  <   >  >>