ولم يبق أمام المدارس التالية في الغالب سوى الترجيح بين المدرستين السالفتين واختيار ما يتجه منه في أنظار النحاة، أو استخراج بعض الأقيسة الجديدة بناء على إعادة النظر في بعض الاستقراءات، أو استحضار مادة لغوية جديدة.
فإذا نظرنا في عمل البغدادين الذين عرفتهم بغداد منذ أواخر القرن الثالث الهجري وجدناهم يمزجون بين المذهبين السابقين بعد أن مرّ عليهم حين من الدهر ينتصر كل منهم لمذهب من المذاهب، ولذلك فالطبقة الأولى من البغداديين يغلب على رجالها التحيز إما إلى مدرسة البصرة أو إلى مدرسة الكوفة، وكأنها بذلك ليست غير امتداد لهاتين المدرستين، وقد كان ذلك نتيجة لانتقال رجال المدرستين السابقتين إلى بغداد، فقد انتقل إليها المبرد شيخ البصريين، وثعلب شيخ الكوفيين.
وأشهر من عرف من البغداديين بممالأة البصريين ونصرتهم أبو إسحاق الزجاج (٣١٠ هـ) وقصته مع ثعلب وانتقاده كتاب الفصيح انتصافا لسيبويه مشهورة ومتناقلة في الكتب «١»، وابن السراج (٣١٦ هـ)، والزجاجي (٣٣٧ هـ)، وممن غلبت عليهم النزعة الكوفية أبو موسى الحامض (٣٠٥ هـ)، وأبو بكر بن الأنباري (٣٢٧ هـ)، وهناك علماء جمعوا بين النزعتين كابن كيسان (٢٩٩ هـ)، والأخفش الصغير (٣١٥ هـ).
ولم يلبث أن قوي اتجاه الجامعين بين النزعتين دون تعصب، مما أدى إلى المزج بينهما والترجيح والتفضيل فنشأ مذهب جديد يعتمد على الترجيح والنظر في المذهبين السابقين مع زيادات وفروق قليلة وهو المذهب البغدادي، وقد كانت البادية إلى ذلك الحين لا تزال معينا لا ينضب للمادة اللغوية الأصلية مما أدى إلى استقراء مادة جديدة كانت ذات أثر في استخلاص بعض الأقيسة التي لم تعرف من قبل أو ترجيح بعضها على بعض.
وهناك قواعد ركن فيها البغداديون إلى المذهب الكوفي، وأخرى ركنوا فيها
(١) السيوطي: المزهر ج ١ ص ٢٠٢ - ٢٠٧، وقد نقلها عن معجم الأدباء لياقوت.