للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[النهي عن المماراة والجدال]

وقوله: (ولا نماري في دين الله) اتفق أهل الإسلام على أن المماراة في الدين مما أُنكر في حكم الله سبحانه وتعالى وشرعه، ولكن مع هذا فإنه يقع بين أهل الإسلام إما في المقولات: سواء في الاعتقاد، أو في بعض مسائل الفقه والفروع، أو في بعض أحوالهم المتعلقة بأحوال الدعوة وغيرها، فتقع أنواع كثيرة من المراء في دين الله.

وينبغي لكل طالب علم أو يتفقه في الدين، ومن معاني الفقه في الدين أن يكون على علم بالحكمة الشرعية التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا سمى الله ما آتى نبيه حكمة، فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:٢٦٩] قال بعض السلف: هي النبوة، وقال بعضهم: إنها السنة، وقيل: المعنيان صحيحان، فإن سنته مبنية على الحكمة، ومن أخص أوجه الحكمة فيها أنه لا يصح أن تكون هذه السنة سبباً للتفريق بين من صحت أصولهم واستقامت عقائدهم، فيفترقون لموجب من المقالات اليسيرة، وقد كان شيخ الإسلام رحمه الله مع أنه من أفقه الناس في هذا الباب من الأصول، يقول: (وإنه لما اختلفت الأشعرية والحنبلية كنت من أعظم الناس تأليفاً، قصداً لجمع قلوب المسلمين، وأن تفريقهم إنما يحصل به قوة لعدوهم)، هذا مع أنه كان يتكلم عن قوم يراهم من أهل البدع، ولا يرى أنهم من أصحاب السنة القائمين بها المحققين لها، ولما تكلم عن الأشعرية في بعض كتبه -مع أنه ذكر رداً واسعاً عليهم وألحق كثيراً من مقالاتهم بأصول الجهمية- قال: (ومع هذا كله فإذا كان الأشعرية في بلد ليس فيه إلا معتزلة، فهم القائمون بالسنة في هذا البلد).

ولما تكلم عن المعتزلة ذكر أن أقوالهم كفر بإجماع السلف، ثم قال: (ومع هذا فإنهم يحمدون بما يدعون إلى الإسلام على مذهبهم، فإن من أسلم على طريقة المعتزلة خير ممن بقي على الكفر والشرك بالله سبحانه وتعالى).

فهذه أمور من الفقه لا بد لطالب العلم أن يفقهها، وإذا كانت هذه المسألة التي بين يديك وعنها حصل النزاع والافتراق، واجبة في شرع الله سبحانه وتعالى، فإنه لا شك أن الاعتصام بحبل الله سبحانه وتعالى والاجتماع عليه أوجب منها في شرع الله سبحانه وتعالى، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:١٠٣].

ولهذا كان من فقه شيخ الإسلام أن قال: وهذه المسألة -وذكر مسألة من المسائل- إنما تركت القول فيها مع إحكامه، لما استلزم القول فيها طرفاً من التفريق بين المسلمين، قال: وأوجب منها الاعتصام بحبل الله والاجتماع عليه، فتركنا ما كان دونه في الوجوب لما هو أوجب.

<<  <  ج: ص:  >  >>