للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[طرق تحصيل مذهب السلف]

وهنا مسألة مهمة وهي: كيف يمكن تحصيل مذهب السلف؟

والجواب: أن الطريقة المعتبرة عند المحققين من أرباب السنة والجماعة هي أن مذهب السلف يُعرف بأحد وجهين, واستعمل بعض المتأخرين من متكلمة الصفاتية المعظمين للسنة والجماعة وبعض الفقهاء طريقاً ثالثاً هو الذي يستعمله المعاصرون.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن قيل: بمَ يُعرف مذهب السلف، ليعلم أن مذهب السلف الذي يضاف إليهم يكون لازم الاتباع, وإذا قيل في مسألة: إنها مذهب للسلف, فإن معنى هذا أنها من معاقد إجماعهم, وأن هذا من الدين اللازم الذي لا تجوز مخالفته أو الاجتهاد بخلافه, ويكون سائر ما خالفه بدعة.

ثم قال: ومذهبهم على هذا الوجه يُعرف بأحد طريقين:

الطريق الأول: إما بالنقل المتواتر عن أعيانهم, ولا يُعلم عن أحد من الأعيان ما يخالف هذا النقل.

بمعنى: أن يستفيض عن أعيان السلف التعبير بجملة, كقولهم مثلاً: الإيمان قول وعمل, وكقولهم: أفعال العباد مخلوقة, وكقولهم: القرآن ليس مخلوقاً, فهذه جمل مستفيضة عن السلف, ولم ينقل عن السلف في ذلك خلاف.

الطريق الثاني: بذكر علماء الإسلام الكبار -أي: المعتبرين والمحققين- عن شيء من هذه المسائل أنه مذهب للسلف، ولا شك أن هذا الوجه إنما ينتظم إذا لم يُعرف عن أحد من السلف مخالفة لما ذكره بعض الكبار, وإلا صار هذا من التحصيل المظنون, كقول إسحاق: (أجمع الناس من زمان رسول الله إلى زماننا هذا)، ومعلوم أن إسحاق من الأكابر, لكن لم نقل: إن نقله للإجماع قطعي؛ لكون المخالفة قد ظهرت ممن هم أجل كـ الزهري وأمثاله).

فهذان الطريقان بهما يُعرف مذهب السلف.

ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله: (واستعمل كثير من المنتسبين إلى السنة والجماعة من أصحاب الكلام, وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة طريقاً ثالثاً لتحصيل مذهب السلف, وهو أنهم يعتبرون دلائل الكتاب والسنة, فإذا انتظم عندهم مقام الاستدلال على قول ولزم, جعلوا ما انتظم عليه مقام الاستدلال ولزم مذهباً للسلف, لكون السلف لا يخرجون عما لزم من دلائل الكتاب والسنة، وهذا مما يمكن أن نعبِّر عنه بأنه تحصيل مذهب السلف بالفهم).

وكتلخيص لهذه المسألة نقول: إما أن يكون مذهب السلف محصلاً بالنقل, وإما أن يكون محصلاً بالفهم.

أما تحصيله بالنقل فمن وجهين:

الوجه الأول: إما النقل المتواتر المستفيض عن أعيانهم, بأن يصرحوا بعبارات تدل على مذهبهم، كما جاء عنهم في مسألة القرآن أو الرؤية أو غيرها، ولا ينقل مع ذلك خلاف عن أحد من أعيانهم.

الوجه الثاني: بتنصيص العلماء المحققين الكبار أن على هذه المسألة إجماع للسلف, أو أنها مذهب للسلف.

أما تحصيل مذهب السلف بالفهم: فذلك بأن يجتهد في نصوص الكتاب والسنة، فيرى أن النصوص تحصل مذهباً واحداً لا ثاني له, فيرى أن هذا المذهب الذي تحصل باجتهاده هو وحده الممكن في المسألة ولا يمكن غيره فيجعله مذهباً للسلف؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة لا تدل إلا على هذا القول, والسلف لا يخرجون عن الكتاب والسنة.

والتحصيل على هذا الوجه لا شك أنه غلط, ومعلوم أن القول إذا قيل: إنه مذهب للسلف، فمعناه: أن خلافه يكون بدعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>