وقد تنازع أهل السنة والحديث في القتال بين علي وأهل الشام، أي: بين معاوية ومن معه، فمنهم من قال: إن الصواب كان مع علي، ومنهم من قال: إن الصواب كان في ترك القتال، وكلا القولين مأثور عن السلف رحمهم الله.
وأما من صوب قتال معاوية فإن هذا قولٌ غلط لم يقله أحدٌ من السلف، وكذلك من قال: إن هذا الزمن ليس فيه إمام أو خليفة شرعي، وإنما هو زمنٌ فتن، فهذا قول لطائفة من المتكلمين وبعض الفقهاء؛ وإنما القولان المأثوران عن السلف إما تصويب القتال من جهة علي، وإما تصويب ترك القتال.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول:(إن جمهور أهل السنة والحديث يذهبون إلى أن الصواب هو ترك القتال؛ لأن معاوية ومن معه غاية الأمر أن يكونوا بغاةً، ولم يؤمر لا في الكتاب ولا في السنة بقتال الطائفة الباغية ابتداءً، وأما قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ..}[الحجرات:٩]، فإن قتال الطائفة الباغية إنما شُرع بعد الصلح، قال: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، فالمشروع هو الصلح وليس البدء بالقتال.
ويستدل لذلك أيضاً بما ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن:(إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، قال شيخ الإسلام:(ولو كان القتال مشروعاً لما كان من امتنان الله وفضله على المسلمين أن يرفع عنهم ما هو مشروع)، أي: لكانت النعمة في بقاء هذا المشروع واستمراره، فهذان الدليلان هما أخص ما استدل به شيخ الإسلام، وقال: إن هذا هو القول الذي عليه جمهور أهل السنة والحديث، وذكر أنه الراجح في مذهب الإمام أحمد.
والحقيقة أن المسألة فيها إشكال، ولا يلزم أن يجزم فيها عند طالب العلم بجزم؛ لأن الاستدلال بالآية مشكل من جهة، وهي أنه وإن كان القتال إنما يشرع بعد الصلح؛ لكن إذا كان الصلح متعذراً أو لم يكن ممكناً، فهل يبقى أن القتال لا يشرع بحال؟ وهل علي رضي الله تعالى عنه أمكنه الصلح وتركه؟ هذه مسألة لا يمكن الجزم بها، أو يجزم بأن علياً ما كان يمكنه الصلح، لكن على أقل تقدير نقول: لا يمكن لأحدٍ أن يقول: إن علياً كان يمكنه الصلح، ولكنه أعرض عنه.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(إن ابني هذا سيد)، يقال: إن هذا كان في حق الحسن، ومعلوم أن الحسن ليس كأبيه، فلو كان القتال من أبيه مشروعاً لم يلزم أن تكون مواصلة القتال من قبل الحسن مشروعة، فإن مقام علي ليس هو مقام الحسن، فالمسألة ليس فيها شيء بين، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(تقتل عماراً الفئة البغية)، فهذه مسألة اجتهاد.
ومما يدل على أن المسألة مسألة اجتهاد: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مختلفين فيها، ومن ترك القتال لا يلزم أنه لم يكن مع علي، فإن أسامة بن زيد، كما ثبت عنه في الصحيح قال لـ علي:(يا أبا الحسن! لو كنت في شق الأسد، لأحببت أن أكون معك فيه) أي أنه كان موالياً تماماً لـ علي، قال:(ولكن هذا أمرٌ لا أراه) وحتى علي نفسه، فقد كان متبرماً من القتال، وكان يمتدح مقام سعد بن أبي وقاص، وامتداحه له مشهور معروف، فالقصد أن هذه المسألة ليست بينة، بل هي من مسائل الاجتهاد، ومن اجتهد من الصحابة فله أجران ومن أخطأ فله أجر.