للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقوال المرجئة في الإيمان والرد عليهم]

وأما من قابلهم وهم سائر طوائف المرجئة، فإنهم أجمعوا على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وهذه الجملة هي جامع أقوال المرجئة.

ثم بعد ذلك اختلفت المرجئة على أقوال، وقد ذكر الأشعري في (المقالات): (أن مقالات المرجئة في مسمى الإيمان اثنتا عشرة مقالة)، وقد أجمعوا على أن أشد هذه المقالات غلطاً وبعداً عن السنة والجماعة هي مقالة الجهم بن صفوان؛ فإنه قال: الإيمان هو المعرفة، ويقاربه في الجملة قول أبي الحسين الصالحي، وأخف مقالات المرجئة هو قول حماد بن أبي سليمان.

ولا يوجد أصل من أصول الدين قد خالف فيه بعض المعروفين بالإمامة والسنة والجماعة من المتقدمين إلا هذا الأصل، وإلا فإن كلام السلف في الصفات والقدر وأمثاله كلام متصل محكم، وإنما نازع في هذا الأصل حماد بن أبي سليمان، وهو إمام من أعيان أئمة الكوفة، ومن تلاميذ إبراهيم النخعي، وقد أجمع أهل العلم على أنه من المعروفين بالسنة والجماعة، ولكنه غلط حين أخرج العمل عن مسمى الإيمان، فهذه البدعة أول من ابتدعها من أهل السنة والجماعة هو حماد بن أبي سليمان، ومن جهته دخلت على أبي حنيفة وجماهير أصحابه.

وسبب غلطهم في مسمى الإيمان لم يكن موجبه خارجاً عما يصح الاستدلال به الكتاب والسنة، ومعنى ذلك أن هذا القول لم يكن دخل على حماد من أصل خارج عن الاستدلال بالشرع، بل كان يستدل على مقالته هذه بنوع من الاستدلال الشرعي وإن كان استدلاله غلطاً، وذلك مثل استدلاله بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف:١٠٧]، فجعل ذكر العمل مع الإيمان دليلاً على أن العمل ليس داخلاً في مسماه، ولا شك أن هذا إشكال بين يُدفع به عن حماد وأمثاله أنهم كانوا ينتحلون هذا القول على أصول بدعية.

ويتحقق التفريق إذا نظرت في أقوال القدرية أو معطلة الصفات، فإنهم لم يكونوا يبنون تعطيلهم على شيء من الاستدلال بالأصول الشرعية، وإنما مبنى أقوالهم على نوع من الشبهات التي دخلت عليهم من المقالات الفلسفية أو نحوها، وإن كان يستدل بعضهم بما هو من القرآن فهذا ليس هو مبنى أو موجب المقالة في مسائل الصفات والقدر وأمثالها.

ولم يكن حماد بن أبي سليمان رحمه الله من المعروفين بشيء من أصول البدع كعلم الكلام ونحوه، ولكنه قال هذه المقالة التي أجمع الأئمة على أنه خالف فيها الإجماع عن غلط في الاستدلال، ويراد بالإجماع هنا الإجماع المتقدم، أي: أن السلف قبل حماد وهم طبقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم، لم يكن أحد منهم يقول: إن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وعلى هذا قيل: إن قول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وأمثالهما مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وليس من شرط كونه مخالفاً للإجماع أن لا يُضاف حماد وأمثاله ممن قال بذلك من أصحاب السنة إلى السنة والجماعة، بل الإجماع يتحقق من وجه متقدم.

ولهذا نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تارة يقول: وقد أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وتارة يقول: والقول الذي عليه الجماهير من السلف أن الإيمان قول وعمل، وكلا الاستعمالين صحيح، فإنه إن قال: إن السلف أجمعوا فإنه يعني الإجماع المتقدم على حماد، ومخالفة حماد هنا لا تعتبر؛ لكونه خالف الإجماع المتقدم، وإذا قال: إنه قول جماهير السلف، فإنه يعني بذلك أن حماداً وأمثاله لا يخرجون عن السنة خروجاً مطلقاً، بل هم يعدون في أصحاب السنة والجماعة، وإن كان قولهم بدعة بالإجماع فضلاً عن كونه غلطاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>