للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اعتماد المتكلمين على العقل دون السمع]

ثم بعد هذا تأتي المعتزلة تبحث في دلائل القرآن فتجد قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦]، فيقولون: هذا دليل على خلق القرآن، ويأتون لمسألة الرؤية فيتمسكون بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]، فيقولون: هذا دليل عدم رؤية الله، مع أن هاتين الآيتين ليستا هما الموجب للمذهب، ومثلهم الأشاعرة لما نفوا الصفات الفعلية، فإنه لم يكن الموجب لذلك دليلاً من القرآن، وقد صرح بذلك الرازي فقال: (اتفق أصحابنا أن نفي حلول الحوادث ليس معلوماً بالسمع، بل ظاهر السمع عليه، ولهذا اشتغل أصحابنا إما بتأويله أو تفويضه، واستدلوا بدلائل العقل، قال: والصواب، هو الدليل المركب من السمع والعقل).

ثم أتى بدليل زعم أنه هو النهاية، واستعمله الأشاعرة إلى عصرنا هذا في مختصراتهم، ويرون أنه هو الدليل القاطع المحكم، وهو دليل من نظره بأدنى عقل، عرف أنه دليل ساقط في العقل، فضلاً عن كونه ساقطاً في الشرع، فإنه قال: إن هذا النوع من الصفات، إما أن يكون كمالاً وإما أن يكون نقصاً، فإن كان نقصاً فالله منزه عن النقص، فلزم أن يكون إذا أثبت كمالاً قال: وإذا كان كمالاً، فإنه حادث، فيلزم أن يكون هذا الكمال فات من قبل، وفوات الكمال نقصٌ والله منزه عن النقص بالإجماع.

والإجماع هو مقصوده بالدليل السمعي.

ولا شك أن هذا دليل ساقط حتى في العقل، فمثلاً: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤]، يقول: إذا كان كلام الله لموسى كمالاً، لزم أن يكون هذا الكمال فاته قبل خلق موسى، وفوات الكمال نقص، والله منزه عن النقص بالإجماع.

ومن أخص أغلاط الرازي أنه يزعم أن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقص علم بالإجماع، والصحيح أنه معلوم بالعقل ومعلوم بالشرع الذي هو والكتاب والسنة والإجماع، مع أن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقص معلوم بالعقل قبل ورود الشرع.

ثم استدلال الرازي عنه جوابات، ومن بدهي الجواب أن يعارض الرازي بنفس الحال فيقال له: الأرض محدثة بعد أن لم تكن، والله هو الخالق لها بإجماع المسلمين وجماهير بني آدم، فخلقه لها كمالٌ أو نقص؟ إن قال: نقص فقد كفر، وإذا قال: إنه كمال، لزم على قاعدته أن يكون الكمال فاته من قبل، وما يقوله في الأفعال اللازمة المتعلقة بقدرته ومشيئته، يقال في الأفعال المتعدية كخلق السماوات والأرض ونحو ذلك، ثم إن ما كان حادثاً وهو تكليمه لموسى امتنع أن يكون قديماً، وما كان ممتنعاً لم يكن عدمه نقصاً، لأن الكمال والنقص متعلق بمسائل الإمكان والوجود.

<<  <  ج: ص:  >  >>