[الأصل الخامس: أن للعباد مشيئة حقيقية]
الأصل الخامس: الإيمان بأن للعباد مشيئة على الحقيقة، وهي تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩].
ولفظ الحقيقة استعمل في كلام طائفة من أهل السنة في بعض مسائل القدر والصفات والإيمان والأسماء والأحكام، مع أن هذا اللفظ لم يستعمل في النصوص، وإنما استعمله من استعمله؛ لأن طائفة من متكلمة الصفاتية المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، صاروا يستعملون ألفاظاً وجملاً لأهل السنة المتقدمين، وصاروا يتأولونها على المجاز عند تفصيلها.
فمثلاً: الجبرية لا يثبتون مشيئة للعبد، فلما جاء متكلمة الصفاتية، كـ أبي الحسن الأشعري وأصحابه، قالوا: إن للعبد مشيئة، فخالفوا الجبرية بذلك، ولكنهم لم يجعلوا هذه المشيئة على الحقيقة، وإنما جعلوها مشيئة مجازية.
ولهذا فإنك تجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يقول: وأنه سبحانه وتعالى فوق عرشه على الحقيقة، وأنه مستوٍ على عرشه على الحقيقة، لأن جملة: (مستوٍ على العرش)، يقر بها كثير من متكلمة الصفاتية، ومن تأثر بهم من الفقهاء، لكنهم لا يسلمون أن هذه الجملة على الحقيقة، بل يقولون: على المجاز، ثم يتأولون المجاز على أكثر من معنى، وقد يختلفون فيه.
ومن حيث الأصل لا ينبغي أن يستعمل هذا التقييد لسببين:
السبب الأول: أن الأصل في الكلام الشرعي وكلام الأئمة عدم التقييد.
السبب الثاني: أن استعمال لفظ الحقيقة، يكون فيه إقرار بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، والمشهور في تعريف الحقيقة أنها لفظ مستعمل فيما وضع له، والمجاز لفظ مستعمل في غير ما وضع له؛ وهذا التقسيم عليه إشكالات كثيرة منها:
أنهم يقولون إن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، فأثبتوا معنيين: الوضع والاستعمال.
والاستعمال هو استعمال العرب، وعليه فيكون الوضع سابقاً للاستعمال، وهنا يأتي السؤال: من هم الذين وضعوا اللغة؟
ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده لهذه المسألة: (إن التعريف فيه تعذر من جهة العلم؛ فإنه يستلزم العلم بالوضع والعلم بالاستعمال، أما العلم بالاستعمال فإنه ممكن؛ لأنه استعمال العرب، وأما الوضع فإنه متقدم عليه ليس بمتحصل العلم)، قال: (وعن هذا تكلم من تكلم من المعتزلة في أصل وضع اللغة ومبدئها).
ومن فقه الأئمة رحمهم الله أنه قد يُستعمل من الكلام في أبواب أصول الدين ما يكون مقتضى استعماله هو قول المخالفين، ولهذا لما ناظر الإمام أحمد أئمة الجهمية، كان من سؤال الإمام أحمد لأحد أعيانهم أن قال له: قولكم بأن القرآن مخلوق، هذا من الدين أو ليس من الدين؟
فقال الجهمي: إنه من الدين.
قال: أهذا الدين علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟
فقال الجهمي: بل عرفوه.
فقال الإمام أحمد: أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن مخلوق؟ فانقطع.
ولما كان مجلسٍ آخر، استعمل الجهمي نفس الحجة، فقال للإمام أحمد: القرآن ليس مخلوقاً، أهذا من الدين؟ فقال الإمام أحمد: نعم.
فقال الجهمي: أعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟
قال أحمد: بل عرفوه.
فقال للإمام أحمد: أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن ليس مخلوقاً؟
قال الإمام أحمد: اسكتوا نسكت، أي: أن أئمة السنة قالوا: القرآن ليس مخلوقاً، من باب النفي لباطل طرأ على الدين، ولو لم تقل الجهمية: إن القرآن مخلوق، لكان تعبير الأئمة: إن القرآن كلام الله، ولا يحتاجون أن يقولوا: ليس بمخلوق، لأن ما كان كلاماً لله فإنه بالضرورة ليس مخلوقاً، لأن كلامه صفة من صفاته، ولهذا لا يوجد في كلام الأئمة أن يقولوا: سمع الله ليس مخلوقاً، أو علم الله ليس مخلوقاً، لأنه لم يقل أحد بخلقه.
والقاعدة العقلية الشرعية: أن الباطل إذا طرأ يجب نفيه، ولهذا لما أشرك من أشرك، وزعم من زعم أن لله ولداً، قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:٩١].