قوله:(يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً):
من أصول أهل السنة في هذا المقام، الإيمان بأن لله نعمة وفضلاً على المؤمنين، وأن كل من آمن فإنه إنما آمن بفضل الله ونعمته عليه، وكل من كفر فإنما كفر بما صرف نفسه، أو صرفه الشيطان عن الهدى، والله سبحانه وتعالى يهدي على معنى أنه يوفق، ويهدي على معنى أنه يبين بما ينزل في كتابه، أو يبعث به رسله عليهم الصلاة والسلام.
وقد نازعت المعتزلة في هذه المسألة، فقالوا: إن الله -سبحانه وتعالى وتقدس عن قولهم- يهدي بمعنى: يبين، وأما الهدى الذي هو التوفيق فإنه يستوي فيه الناس.
ولا شك أن هذا أصل باطل، فإن الله قال لنبيه:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص:٥٦]، ولو كانت الهداية هي البيان لم يصح نفيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث كونه هادياً مبيناً يهدي من يشاء، وقد هدى عمه بأن علمه وبين له، وإنما المراد هنا:(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي: لا تستطيع التوفيق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بشر ليس بيده هذا الأمر، ولهذا قال:(وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أي: يوفق من يشاء.
وتوفيقه سبحانه لعباده المؤمنين للإيمان تابع لعلمه وحكمته، ولهذا قال سبحانه:{وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال:٢٣]، ولما علم أن الأنبياء محل لاصطفائه اصطفاهم، ولهذا فإن الله تعالى إذا ذكر الضلال في القرآن فلا بد أن يقيده إما بجهة أو سبب من العبد، أو يذكره معه الهداية، كما في قوله:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[فاطر:٨]، فإذا علقه بمحض المشيئة ذكر معه الهداية، وإلا ذكره مقيداً بجهة وسبب من العبد، كقوله تعالى:{وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ}[إبراهيم:٢٧].
فقوله:(وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ) سياق كلمة (الظالمين) يدل على السبب، وأن الظلم جاء من جهتهم، ولهذا فإنه سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء:١٦٥]{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:١٥].