[حقيقة الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء في الإيمان]
ومن مسائل هذا الباب وأصوله: أن القول الذي قاله حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة رحمهما الله جعل كثيراً من أهل العلم يتكلمون في نوعية الخلاف بينه وبين القول الذي عليه عامة السلف, فالشارح ابن أبي العز رحمه الله يقول: إن الخلاف صوري بين أبي حنيفة رحمه الله وجماهير السلف، وهذا باعتبار أن أبا حنيفة وحماد بن أبي سليمان يقولان: إن مرتكب الكبيرة ليس مخلداً في النار, ويجعلانه تحت المشيئة, ويقران بعذاب من يعذب من أهل الكبائر.
ونقول: نعم.
قال بعض الحنفية: إنه خلاف صوري, وقال بعضهم: إنه خلاف لفظي, أي: لا ثمرة له, ولهذا يذكر الأصوليون في كتبهم بعض مسائل النظر الخلافية فيقولون: والخلاف لفظي, أي: ليس له ثمرة.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: (بأن الخلاف جمهوره لفظي) , وقال مرة: (إن أكثر الخلاف بين حماد والجمهور خلاف لفظي) , ومراده بأن أكثره لفظي أي: أن حماداً يقر بوجوب الواجبات وأصول الشرائع, ويعطيها أحكامها في الدنيا من جهة الحدود، وكذلك في الآخرة على ما قرره أئمة السلف أجمعين, وإنما لا يسمِّي هذه الأعمال الظاهرة إيماناً, ومن هنا كان أكثر الخلاف لفظياً، وبهذا يتبين للناظر في هذه المسألة ماذا يقصد بالقول إن الخلاف فيها لفظي.
وأما من جهة الفرق فهو من وجوه:
الأول: وهومن أخصها: أن عدم تسمية العمل الظاهر إيماناً مخالف للكتاب والسنة, فإن الله سماها إيماناً, ومنع تسميتها إيماناً مخالفة للكتاب والسنة من حيث التسمية, وعليه فثمرة الخلاف هي أن هذا القول مخالف للكتاب والسنة، ولا يلزم بالضرورة أن تكون الثمرة مسألة عملية من هذا الوجه.
الوجه الثاني: أن حماداً وأمثاله يقولون: إن الإيمان واحد, فلا يجعلون العمل مما يحصل به الزيادة والنقصان, وهذا هو المقطوع به في قول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله.
وبعض أهل العلم يعبرون فيقولون: إن حماداً وأبا حنيفة لا يقولون بأن الإيمان يتفاضل, وهذا مما يكرره شيخ الإسلام رحمه الله.
وهناك مسألة دون الأولى في التحقق في كونها مذهباً لـ حماد بن أبي سليمان، وهي: هل حماد يقول: إن الإيمان واحد مطلقاً، لا يزيد ولا ينقص كما هو قول المرجئة؟
يجزم شيخ الإسلام رحمه الله بذلك ويقول: (ومن الفرق بين قول حماد وقول الجمهور: أن حماداً وأمثاله لا يجعلون الإيمان متفاضلاً, ويجعلون أهل الإيمان في إيمانهم على حال واحدة).
وهذا ينبني على صحة النقل عنه, وإلا فإن هذا من لازم قول حماد؛ لكن من المعلوم أن لوازم المذاهب ليس بالضرورة أن تكون مذاهباً تضاف إلى أعيان القائلين بأصل المذهب, ولهذا يُتردد في هذا الإطلاق, فهو وإن كان يُجزم بكونه لا يجعل العمل موجباً لزيادة الإيمان, لكن هذه مسألة دون الإطلاق.
الوجه الثالث: أنه على طريقة حماد وأبي حنيفة لا يكفر العبد بتركه للأعمال الظاهرة, سواء كان تركه لجنس الأعمال الظاهرة, أو كان تركه لبعض أعيانها.
هذا مع أن الإجماع منعقد على أن من هجر جنس العمل الظاهر فإن هجره له كفر, وهذا مذهب مستقر عند متقدمي أئمة السلف المخالفين لـ حماد بن أبي سليمان، وقد ذكر هذا الفرق من متأخري المحققين الإمام ابن تيمية رحمه الله.
وبعض من تكلَّم في هذه المسألة يذكر عن شيخ الإسلام ما هو مخالف لذلك, وليس الأمر كذلك، بل لا شك أنه يرى أن من قامت عنده القدرة والإرادة الموجبة لحصول المقدور والمراد, ومع هذا كله هجر جنس العمل فما ركع لله ركعة، ولا سجد له سجدة، ولا صام له يوماً، ولا أتى البيت الحرام، ولا أدى زكاة, فإن هذا لا يكون إلا كافراً.
وقد قال إسحاق بن إبراهيم -وهو من أعيان المتقدمين- كما رواه الخلال وغيره بسند صحيح: (غلت المرجئة حتى كان من قولهم: أن من ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره, إذ هو مقر -أي: لا يكفر لأنه مقر عندهم- فهؤلاء الذين لا شك عندي أنهم مرجئة)، وكلمة إسحاق هذه هي أحسن كلمة أثرت عن المتقدمين في هذه المسألة التي تكلَّم فيها كثير من المتقدمين والمتأخرين.
وبنحو هذه الكلمة جاء عن سفيان بن عيينة , وقد حكى الآجري وأبو عبد الله ابن بطة الإجماع على هذه المسألة.