[مناقشة متكلمة المرجئة في تفسيرهم الإيمان بالتصديق]
وأما الاستدلال الذي احتج به جمهور متكلمة المرجئة، فهو استدلال من جهة اللغة، فإنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، وعلى هذا قالوا: الإيمان الشرعي هو التصديق، ثم رتبوا على ذلك أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وبنوا ذلك على مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق.
المقدمة الثانية: أنه إن كان في اللغة يراد به التصديق لزم أن يكون في الشرع كذلك ولا يتعداه إلى غيره.
وكلا المقدمتين مما ينازعون فيه، فإن الإيمان وإن استعمل في كلام العرب مرادفاً للتصديق في بعض السياقات، إلا أنه يقع في بعض السياقات بخلاف ذلك، وبينه وبين التصديق فرق من جهة اللفظ والمعنى ذكره جماعة من أهل السنة.
والجواب عن المقدمة الثانية من وجهين:
الوجه الأول: أنه إذا سلم أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق فإنه لا يلزم أن يكون في سائر موارده في الشريعة كذلك، ومعلوم أن المرجئة يسمون العمل إسلاماً، مع أن هذا مما لا توجبه اللغة، فما كان مسوغاً أو موجباً عندهم لتسمية العمل إسلاماً من جهة اللغة فيمكن طرده على مسمى الإيمان، فإذا قالوا: إن الصلاة لا تسمى في اللغة إيماناً، بل الصلاة في اللغة هي الدعاء، والإيمان هو التصديق، قيل لهم: وهل الصلاة والزكاة والحج والأعمال الظاهرة تسمى في اللغة إسلاماً؟
فالجواب: لا.
فيقال: فما الذي سوغ أن تسمى إسلاماً مع أن الإسلام اسم شرعي بالإجماع، كاسم الإيمان من جهة كونه اسماً شرعياً؟
فتبين أن هذا مما لا توجبه اللغة بذاتها، بل لا بد فيه من اعتبار تسمية الشارع، فلما كان الأمر كذلك تعلق اسم الإيمان بسائر الأعمال على هذا الوجه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن ما استعمله متكلمة المرجئة -لِمَا دخل في أصولهم الكلامية- من تجريد الماهيات إلى صور يفرضها الذهن لا حقيقة لها في الخارج، ومعنى هذا الكلام: أنهم إذا قالوا: الصلاة عمل، والعمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، إذ الإيمان هو التصديق.
فإنا نقول: ليس في الأعمال الشرعية الظاهرة كلها عمل ينفك عن التصديق، أما العمل الظاهر من حيث هو عمل ظاهر مجرد عن التصديق فإنه لا يسمى إيماناً بالإجماع، وهذا مما لا ينازع فيه أحد، والعمل الذي قصد السلف أنه إيمان هو العمل الشرعي، وهو العمل الذي أوجبه الشارع أو ندب إليه، كالصلاة والصيام والطواف بالبيت، إلى غير ذلك، وإلا فالأعمال العادية كلعب بني آدم وحركتهم لا تسمى إيماناً.
فالصلاة لا يمكن أن تكون شرعية وهي مجردة عن التصديق بالباطن، وهو التصديق بأن هذه الصلاة أوجبها الله، وأن الله أوجبها أربع ركعات مثلاً كصلاة الظهر، وأنه شرعها في هذا الوقت، وأنه يقال فيها كذا وأركانها كذا، ويتعبد بها إلى القبلة، وأن من شرطها الإخلاص والإيمان؛ فإن هذه وإن كانت أعمالاً ظاهرة كالركوع والسجود والقيام والقراءة إلى غير ذلك إلا أنها متعلقة بالتصديق، ولهذا لو أن أحداً صلى صلاة الظهر خمساً فإن عمله يسمى بدعة وضلالاً، ومن صلى صلاة وقال: إن الصلاة ما شرعها الله وإنما هي من أقوال الفقهاء، فهذا يكون كافراً، ولا تكون صلاته شرعية.
فتحقق من هذا أن سائر الأعمال الظاهرة الشرعية ليست هي مجرد أعمال ظاهرة منفكة عن التصديق.
وقد تفطن بعض أئمة المرجئة من المتكلمين لهذا، فقالوا: العمل من حيث هو ليس إيماناً.
فيقال: العمل من حيث هو عمل إذا لم يكن له وجود في الخارج لا يمكن أن يسمى إيماناً عند أحدٍ من المسلمين، فهم يقولون: الصلاة من حيث هي صلاة -أي: كحقيقة مجردة وعمل ظاهر- ليست إيماناً.
فيقال: الحقيقة المجردة عن التصديق لا يلتفت إليها، وليس هناك أحد من المسلمين يصلي هذه الصلاة.
ولهذا لو أن الإنسان أثناء لعبه أو رياضته مثلاً أتى بحركة تشاكل حركة الركوع لم يُسمّ راكعاً في الشرع وعمله هذا لا يسمى إيماناً، لكن لو أدى ذلك داخل ركن من أركان الصلاة فإنه يكون ركوعاً شرعياً ويسمى إيماناً، فتحقق من هذا أن الأصول الشرعية والعقلية واللغوية إذا سلمنا أنها تدل على أن الإيمان مرادف للتصديق، فإن كل ما تضمن التصديق وتحقق به فإنه يسمى إيماناً.
ولهذا فإن الصلاة وإن كانت عملاً ظاهراً من جهة، إلا أن فيها تصديقات وفيها أعمال قلوب.
ويقال: إذا لم تكن الصلاة إيماناً امتنع أن تكون إسلاماً، وامتنع أن يكون الإيمان تصديقاً، وعليه فإن قولهم: إن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان لأن الإيمان هو التصديق، يعتبر مناقضاً للعقل فضلاً عن مخالفته للشرع، فإنه مبني على مقدمة مفروضة يفرضها الذهن، وهي: أن العمل الظاهر الذي سماه السلف إيماناً يمكن تجريده عن التصديق، وليس الأمر كذلك.
فإن قالوا: إن التصديق الذي في الصلاة يسمى إيماناً، والحركة الظاهرة لا تسمى إيماناً؟
قيل: هذا فرض يفرضه الذهن ولا وجود له في الخارج، فإنه إذا تجرد هذا العمل عن التصديق لم يسمِّ صلاة ولا ركوعاً ولا سجوداً، ولا يوجد في الخارج إلا حركة يقصد بها التعبد أو حركة لا يقصد بها التعبد، أما وجود حركة في الخارج يقال إن تصديقها إيمان، وأما هي من حيث هي فليست إيماناً، فهذا، فإن من حنى ظهره إما أن يكون راكعاً لله سبحانه وتعالى في صلاة من الصلوات، وإما أن يكون فعل ذلك لغرض وموجب احتاجه من أجله.
ومعلوم أن الأول يسمى عمله إيماناً، والثاني لا يسمى إيماناً ..